مقالات الرأي

كلنا راحلون

لم أكن أود التعليق على “البوست” الغريب الذي كتبه الصديق أحمد برقاوي، في عزاء الصديق الراحل طيب تيزيني، وقال فيه إنه عرف الراحل معرفة “عميقة” سواء من خلال أعماله الفكرية التي قرأ معظمها، أو من خلال معايشته في جامعة دمشق وفي مدينة عدن، ثم أضاف: “لم أعجب بأية صفة من صفاته، ولم أرض عن أي سلوك من سلوكاته، ولم أستحسن أيًا من مؤلفاته…” أقول لم أكن أود التعليق على ما كتبه برقاوي؛ لولا كثرة ما وردني من تساؤلات حول ما قد أعرفه، من دوافع مثل هذا الموقف، كوني عايشت الاثنين في دمشق وعدن.

أقول قبل كل شيء، ردًا على أكثر من سؤال، إنه لا شيء شخصيًا بين برقاوي والراحل تيزيني. لا خلافات في العمل ولا “عداوات” أخرى، بما فيها “عداوة الكار”. لكن، سبحان الله، هكذا هو أحمد برقاوي، معجب بنفسه فقط، ولا يعجبه أحد من الآخرين. وهو، إلى ذلك، يعتبر نفسه معلمًا، والآخرين جميعًا تلاميذ ينبغي لهم الإنصات إلى آرائه المطلقة التي لا يشوبها خطأ ولا خطل.

كنت قد كتبت مقالًا في (جيرون) بعنوان “أحمد برقاوي وصادق العظم والعلوية السياسية” (جيرون 26 آذار/ مارس 2018)، أناقش فيه ما ورد في مقالة له بعنوان “صادق العظم وفكرة العلوية السياسية” (جيرون 18 آذار/ مارس 2018)، قال فيها برقاوي من بين ما قال: “الحق أن هذا الموقف من صادق موقفٌ خاطئ، فضلًا عن أن فهم فكرة صادق فهم هو الآخر خاطئ، كخطأ صادق نفسه، في طرح هذه الفكرة لفهم الجماعة الحاكمة”. الموقف خاطئ، وفهم الآخرين لفكرة صادق خاطئ والكل خاطئ إلا أحمد برقاوي!! وقتها بيّنت لو أن برقاوي قرأ صادق جيدًا، ولم يقتطع جملًا من النص الذي حاول انتقاده؛ لتبيّن له أن صادق لم يقل شيئًا آخر غير الذي يقوله أحمد في مقالته نفسها.

لكن الأمر في “بوست” العزاء الشهير تعدى مناقشة الأفكار، حيث لا يكتفي برقاوي بعدم استحسان أي من مؤلفات الراحل تيزيني، بل هو لم يعجب بأي صفة من صفاته، ولم “يرض” عن أي سلوك من سلوكاته.

ليس من شيم الفلاسفة (أحمد برقاوي يعرّف نفسه بالفيلسوف) البحثُ في صفات الفلاسفة والمفكرين الآخرين وسلوكاتهم الشخصية. هم يحاورونهم في ما يقولون أو يكتبون. يحاورونهم من دون الادعاء بأن الآخرين كلهم مخطئون. حتى الإمام الغزالي، الذي يعتبره كثيرون من أبرز المنظرين في الفكر الإسلامي، قال إنه يعدّ رأيه صوابًا يحتمل الخطأ، ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب.

ثم من أين تأتي بهذا الإطلاق؟ “أي من صفاته”.. “أي سلوك من سلوكاته”؟! ومن قال إن الآخرين تعجبهم كل صفاتك أو أنهم راضون عن كل سلوكاتك؟

أنا -مثلًا- لم يكن يعجبني تكرار الراحل تيزيني لبعض المصطلحات في بعض المناسبات، ولم يكن يعجبني -مثلًا- أنه لم يكن يشاركنا لعبة “التركس” في عدن، لأنه لا يعرفها. لكنني كنت معجبًا بكثير من صفاته وسلوكاته الأخرى، كالتواضع مثلًا، وكالجلَد المدهش في الجلوس ساعات طويلة أما مكتبه يقرأ ويكتب. أما عن السلوك، فقد كتب كثيرون عن مواقفه المشرفة، يوم الاعتصام أمام وزارة الداخلية، ويوم لقائه مع حافظ الأسد، ويوم رد على فاروق الشرع أثناء انعقاد ما سمي “اللقاء التشاوري” عام 2011، داعيًا إلى تفكيك الدولة الأمنية التي شكلت هاجسه الأكبر، باعتبارها مصيبة الأنظمة العربية كلها والنظام السوري بوجه خاص، وإلى التأسيس لدولة القانون وحرية الإعلام، وإلى الإفراج عن المعتقلين… إلخ.

ألم يكن بقاؤه في سورية خلال سنوات الثورة، على الرغم من كل المخاطر، موقفًا شجاعًا يستحق كل إعجاب وتقدير؟ ومن قال لك إن ما يصدره “مركز الشرق للدراسات” الذي تعمل فيه بدبي، يعجب جميع الناس؟! أكثر من ذلك دعني أهمس في أذنك، عزيزي أحمد: ألم نقبل، أنا وأنت وصادق العظم وآخرون، الجلوس إلى مائدة بعض رجال السلطة الكبار، في تسعينيات القرن الماضي، قناعة منا بضرورة إيصال وجهة نظرنا إليهم، علّها تترك أثرًا ما، في الوقت الذي رفض تيزيني ذلك؟! ألم يكن هو على حق، وكنا نحن المخطئين؟

كان طيب تيزيني مفكرًا جادًا ومتميزًا، اشتغل بحرفية وصبر الفلاسفة في الكشف عن الاتجاهات المادية في تراثنا العربي الإسلامي، وكتب في الشأن السياسي العام، بما يتفق في مجمله مع الأطروحات التي مهدت للثورة السورية وواكبتها، ودعا إلى إحلال دولة القانون محل الدولة الأمنية، وإلى إطلاق حرية الرأي والثقافة، وإلى بناء تعددية سياسية حقيقية، يتم خلالها التداول السلمي للسلطة.

هل كانت له عيوب؟ ومن منا بلا عيوب؟!

كلنا راحلون، ياصديقي، و”كلنا” عوراتٌ وللناس ألسنُ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق