في يوم من أيام 1988، كنت في مكتبتي في حمص، أحضّر نفسي للخروج الساعة الثانية للغداء. دخل شخص لا أعرفه، تفحص المكتبة بنظرة سريعة ثم قال: حضرتك ميخائيل؟ قلت له: نعم. طلب قفل باب المكتبة من الداخل، ثم قدم نفسه. كان أحد رموز المعارضة الحمصية المطلوبين للأمن، والمحسوب على “بعث العراق”، كنت أعرف الاسم؛ لأنه كان متداولًا في الحلقات الضيقة للسياسيين المعارضين.
تكلم ما يقارب الساعة عن الوضع السياسي السوري، وخاصة بعد مجزرة حماة، وإطلاق يد المخابرات للهيمنة على البلد، وخطط حافظ الأسد الخبيثة والطائفية في تفتيت المجتمع السوري وإفساده. لم أقاطعه، وكان نظري دائمًا على الباب المقفل، وكنت بطبعي مستمعًا جيدًا له ولغيره، ولكن خوفي كان يكبر كلما تقدم في الحديث. كنت متفقًا معه في الكثير من النقاط التي أثارها في النقاش، إلى أن وصل به الأمر إلى اتهام الطائفة العلوية كلها، من دون استثناء، بالتواطؤ مع حافظ الأسد، إما لأسباب طائفية بحتة، او لأسباب انتهازية لها علاقة بالمصالح غير المشروعة التي كانوا يحققونها بغطاء طائفي وبتجاهل من قبل السلطة.
هنا، قلت له: اسمع أيها السيد (وهو بالمناسبة مسيحي الدين) كنت في سجن المزة مع 76 سجينًا، ستون منهم علويون لأنهم ضد حافظ الأسد، كل أصدقائي أو أغلبيتهم الساحقة من أصول علوية، فكيف تريد مني أن أدين الطائفة بكاملها، وأتهمها بالعمل مع حافظ الأسد، إنكم بهذا الخطاب تدفعون الناس إلى الالتصاق بنظام حافظ الأسد والدفاع عنه، وتخسرون أنصارًا لقضيتكم، إلا إذا كانت قضيتكم طائفية!
شكرًا لزيارتك، وأنا سعيد بالتعرف إليك شخصيًا، فقد سمعتُ عن صلابتك ونضالك ضد حافظ الأسد، ولكن سأنسى أننا التقينا، وأنسى كل الكلام الذي تفضلت به هنا، ليس فقط حرصًا على سلامتك، وإنما قبل ذلك حرصًا على سلامتي، وأنت تعرف أن مجرد استقبالي لك هو تهمة عقابها الموت في نظام الأسد.
نهض خارجًا، وقبل أن يختفي تمتم: أرجو أن أكون مخطئًا، على كل حال، الأيام ستبرهن على صحة أو خطأ موقف كلٍ منا.
مع قيام الثورة، برهن حراك الشعب السوري بكل مكوناته أنه مع هذه الثورة، ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى اكتشف النظام، وهو المنَظم وصاحب الخبرة، الطرق الكفيلة بإجهاض هذه الثورة، وذلك بحرفها عن شعاراتها المعلنة، (الشعب السوري واحد، والشعب السوري ما بينذل، العدالة والمساواة والمواطنة، وغير ذلك)، وشيئًا فشيئًا، انساق قادة الحراك إلى ردات الأفعال، وهذا ما كان يطلبه نظام الأسد ويخطط له منذ البداية.
فما كان يقوله المعارض الحمصي الذي زارني، بصوت منخفض، وفي أماكن مغلقة، قاله إعلام النظام علنًا، عبر وسائل إعلامه، بطريقة معكوسة، والجميع يذكر، كما أعتقد، تصريح بثينة شعبان عن طائفية الحراك، في أشهره الأولى، وأفلام الفيديو عن تعذيب المعتقلين من قبل عناصر في الجيش بلهجة علوية لا لبس فيها، وشتم مقدسات السنّة. لقد كان من مصلحة النظام تحويل الثورة إلى حرب أهلية، أو إلى حرب ضد “الإرهاب السنّي”، وشيئًا فشيئًا، بدأ السوريون يغرقون في مستنقع الفرز الطائفي، لقد استطاع النظام دفع الجميع إلى ملعبه؛ الطائفية والسلاح، والذي سينتصر فيه على خصمه “الشعب السوري”!
في مونتريال، تراجع عدد المتظاهرين الداعمين للثورة، وغاب عن تلك التظاهرات كل أبناء “الأقليات” تقريبًا. ومع تزايد الشعارات “الإسلامیة”، حاول أكثر من شخص تنبيه المسؤولين عن كتابة الشعارات، أنهم برفعهم لتلك الشعارات إنما يلحقون ضررًا بالغًا بالثورة، ولكن الأمور استمرت وكأنها محكومة بمسارات إجبارية.
أخيرًا، هل فشلت الثورة وانتصر النظام حقًا؟
لم يبق شيء في مكانه في سورية، وبالتالي فمن المستحيل القول إن نظام الاسد قد انتصر، صحيح أن عائلة الأسد لم تسقط، ولا تزال صور الأسرة تظهر بين فينة وأخرى، ولكنها مع كل ظهور تثير سخرية السوريين، حتى في أوساط “حاضنته الشعبية”.
نحن جميعًا، في الداخل والخارج، على أبواب مرحلة جديدة لا بد فيها من البحث عن أفكار جديدة تساعدنا في تقبّل الحياة معًا في المجتمع السوري “الواحد”، أن تعاطف السوريين مع المعتقل “العلوي” نبيه نبهان، دليل على أنه لم يمت كل شيء فينا، وأن تعميم المعارض الحمصي، وحكمه على كل أفراد الطائفة العلوية، لم يكن صحيحًا بالكامل.
أخيرًا، ربما “سنؤدي جميعًا واجبنا، عندما لا تكون هناك تكلفة”، وهو أضعف الإيمان!