بدا بوتين، للوهلة الأولى، كأنه حفظ دروس الاتحاد السوفييتي عن “ظهر قلب”، حين بدأ تدخله العسكري المباشر في سورية نهاية أيلول/ سبتمبر 2015، فصرّح بأن مهمته السوريّة لن تستغرق سوى بضعة أشهر، وأراد القول: إنه لن يغرق في المستنقع السوري، مثلما غرق الاتحاد السوفييتي في المستنقع الأفغاني، ولن يحقق ما يرغب فيه الأميركيون والأوروبيون، فتجنّب خوض الحرب البرية، مكتفيًا بالقصف عن بُعد، ومعتمدًا على الميليشيات الشيعية والأسدية، لكنه نسي “القاعدة” العسكرية القائلة: “إن من يشن الحرب يستطيع أن يحدد متى وأين وكيف تبدأ، لكنه لا يستطيع أن يحدد متى وأين وكيف ستنتهي”، أشهُر حرب بوتين صارت سنوات ولم تُنجَز المهمة، ولا تلوح نهايتها “السعيدة” في أفق المدى المنظور كما يتمنى.
مغامرة بوتين السوريّة لم تكن مغامرته الأولى، وقد لا تكون الأخيرة، بالقوة منع بوتين انضمام جورجيا إلى الحلف الأطلسي، وأوقف توسعها “الجيوسياسي” في مقاطعتي جنوب أوسيتيا وأبخازيا عام 2008، وتدخل سياسيًا وعسكريًا في أوكرانيا، ولمّا فشل في كسر ثورتها وعجز عن إعادتها إلى “بيت الطاعة”، ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، لذا لا يمكن حصر أهداف بوتين من تدخله السوري بما سيجنيه من نفطها وغازها وفوسفاتها، وبما سيكسبه من موقعها “الجيوستراتيجي”، ومياهها المتوسطية الدافئة، فسورية سترفعه درجةً إضافية على سُلّم ارتقائه نحو عرش “دولة عظمى” تُلغي أُحادية الزعامة الأميركية على العالم، ليستعيد مجد روسيا القيصرية أو مكانة الاتحاد السوفييتي الدولية بعد فوات الأوان.
في سياق محاولته الصعود من “دولة إقليمية كبرى” إلى “دولة عالمية عظمى”، لجأ بوتين إلى عرض عضلات المجمع الصناعي العسكري الروسي، ولا يمكن تفسير استخدام أسلحة لا ضرورة عسكرية من استعمالها في حرب مثل الحرب السوريّة إلا بأنه استعراضٌ للقوة، فلم تكن هناك أهدافٌ في سورية تتطلب إطلاق صواريخ كروز من سفن حربية وغواصات في بحر قزوين، من على بُعد نحو 1500 كيلو متر، أو حتى من البحر المتوسط، عمومًا، استغّل بوتين حربه السوريّة ليجعل منها مختبرًا لتجريب واختبار الأسلحة الروسية الجديدة المتطورة، ولمعرفة جدواها واكتشاف عيوبها لإصلاحها، ومعرضًا مجانيًا للدعاية والترويج لها لتسويقها، إذ تم اختبار أكثر من 600 نوع من الأسلحة الجديدة والمعدات العسكرية المتنوعة، وعُرِضت تقارير مصورة لطائرات وأنظمة دفاع جوية، وقنابل ذكية موجهة بالليزر وعبر الأقمار الصناعية، وغواصات وأنظمة تشويش ومعدات حرب إلكترونية.
لم يكتفِ بوتين بالعرض والاستعراض السوري، بل تفاخر بأن “روسيا تمتلك نوعًا جديدًا من الأسلحة الاستراتيجية”، مضيفاً أن منظومة “أفانغارد” العابرة للقارات ستكون جاهزة من عام 2019، وكشف النقاب عن قدرات منظومة “أفانغارد” بالقول: إنها ستكون جزءًا من جيلٍ جديد من الأسلحة التي “لا تقهر”، وأكد أن هذا الصاروخ قادر على التحليق بسرعة تفوق سرعة الصوت بعشرين مرة، وعلى تعديل مساره صعودًا ونزولًا، بما يعني أنه سيكون قادرًا على تخطي الأنظمة الدفاعية، وهو قادرٌ على مسح مدينة كاملة عن وجه الأرض، وقوته التدميرية تعادل 2 ميغا طن، أي أن بمقدوره تسوية عشرات الكيلومترات المربعة بالأرض وقتل الملايين، ومن بين الأسلحة التي كشف عنها بوتين أيضًا صاروخ “شيطان 2″، القادر على تدمير المدن الرئيسية كافة في بريطانيا، وفي وسعه حمل 24 صاروخًا من طراز “أفانغارد”، إضافة إلى تجربةٍ ناجحة لصاروخٍ جديد يُعرف باسم “بوريفيستنيك” (طائر النوء)، هذا الصاروخ قادر على حمل رأس نووي، ويستطيع البقاء في الجو أيامًا، ويمكنه أن يدور حول الأرض عند الضرورة لأنه يعمل بالطاقة النووية، وبذلك يكتسب مناورة تجنبه صواريخ الدرع الصاروخية الأميركية، وعرضت روسيا القنبلة الجوية المُعدّلة والمضادة للغواصات “زاغون-2 إيه” في معرض الصناعات الدفاعية الدولي “أيديف-2019” الرابع عشر، وهي مخصصةٌ لقصف الغواصات فوق وتحت سطح الماء حتى عمق 600 متر.
إلى أين يجر بوتين روسيا والشعب الروسي؟ هل يعتقد أن تطوير ترسانة عسكرية عالية التكنولوجيا، وفائقة القدرة النارية والطاقة التدميرية سيمر مرورًا عابرًا، أمام أنظار الولايات المتحدة والحلف الأطلسي من دون إبداء أي ردّ فعل؟ وهل تذاكي الدبلوماسية الروسية بالإدعاء بعدم رغبتها في التورط في “سباق تسلح” يمنع الدخول في سباق تسلح جديد، وإيصاله إلى شفا هاوية “حرب باردة” أشرس مما كانت عليه زمن السوفييت؟ ألم يؤدِّ ذلك إلى إعادة النظر بمعاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى، والموقعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، إبان الحرب الباردة عام 1987، وتهديد بوتين باستعداده لأزمة صواريخ كوبية أخرى ألا يستجرّ بالضرورة ما قاله ترامب: “سنمضي قدمًا في تطوير خيارات ردودنا العسكرية، وسنعمل مع الناتو وحلفائنا وشركائنا الآخرين على حرمان روسيا من أي أفضلية عسكرية”، أليست هذه بدايةً لمباراة “سباق تسلح” و”حرب” تبدأ “باردة”، ولا يُمكن التكهن متى وكيف ترتفع درجة حرارتها.
إلى متى سيظل بوتين قادرًا على تحميل الشعب الروسي واقتصاده تكلفةَ “سباق تسلح” و”حرب باردة” بالاتكاء على “جرح الكرامة” القومية الروسية، مع بزوغ الخجل الروسي من “الفقر الأبدي” الذي يعيشه تاريخيًا “الشعب العظيم”، اعترف بوتين بأن: “الفقر يسحق الناس (…)، 19 مليون شخص يعيشون اليوم تحت خط الفقر”، مؤكدًا أن يمكن وضع “عقد اجتماعي” لدعم السكان المعوزين”. ويُقدّر خبراء عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر بنحو 30 مليونًا، إن الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية لا تقتصر على الفقراء، بل تتوسع لتطال الطبقة الوسطى، مع تراجع مستوى المعيشة عمومًا، نتيجةَ ارتفاع نسب التضخم وتدني معدلات النمو الاقتصادي، ترتكز الأزمة الاقتصادية في روسيا على خلل بنيوي عميق في هيكل البنية الإنتاجية، فالطابع الريعي للاقتصاد يجعله مرتهنًا لأسواق النفط وأسعارها، وتتفاقم السمة الريعية بسبب آثار العقوبات الخارجية وضغوطها، ويفتقد الاقتصاد الروسي التنوع والحيوية، فهو يعاني من ضيق قاعدة المشاريع المتوسطة والصغيرة التي تمنح الاقتصاد حيويته وتنوعه، وتتدنى الإنتاجية نتيجة ضعف مستوى التقدم التكنولوجي المستخدم في بنية الإنتاج المدني، وضعفِ تنظيم وإدارة الاقتصاد الوطني ومؤسساته، ويزيد الطين بلة استشراء الفساد، وذلك كلّه معطوفٌ على شيخوخة المجتمع الروسي.
ألا يعرف بوتين مع من يخوض مباراة “سباق تسلح” طويل الأمد؟ لنأخذ ترتيب الدول بحسب الناتج المحلي الإجمالي وفقًا لتقديرات صندوق النقد الدولي عام 2018؛ تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى عالميًا بحجم 20.4 تريليون دولار، وإذا أضفنا بعض شركائها الأطلسيين، مثل ألمانيا التي في المرتبة الرابعة بعد الصين واليابان، وبريطانيا التي في المرتبة الخامسة، وفرنسا التي في المرتبة السادسة، وإيطاليا التي في المرتبة الثامنة، وبناتج محلي للدول الأربعة مقداره نحو 12.25 تريليون دولار، فإن تحتل روسيا المرتبة الثانية عشرة بناتج محلي 1.57 تريليون فقط، والمفارقة أن كوريا الجنوبية تسبقها في المرتبة الحادية عشرة، بناتج 1.65 تريليون، يُقدّر الإنفاق العسكري للولايات المتحدة بأكثر من عشرة أضعاف الإنفاق الروسي، إذ تنفق أميريكا نحو 700 مليار دولار، وينفق أعضاء حلف الأطلسي نحو 280 مليار دولار، وفي نهاية عام 2020، سيزيد إنفاق أعضاء الحلف بنحو مئة مليار دولار.
وبمقارنة نوعيةٍ بين روسيا صاحبة الترتيب الثاني عشر، بحسب الناتج الإجمالي، وكوريا الجنوبية صاحبة الترتيب الحادي عشر، ندرك الفروقات النوعية بين إدارتين وسياستين وإستراتيجيتين، روسيا أكبر دولة في العالم بمساحة تزيد عن 17 مليون كيلو متر مربع، وتاسع دولة بعدد السكان، بأكثر من 143 مليون نسمة، وتمتلك أكبر احتياطي عالمي من الموارد المعدنية والطاقة، وأكبر احتياطي من الغاز الطبيعي، وثامن احتياطي من النفط، وثاني احتياطي من الفحم. وأكبر احتياطيات العالم من الغابات والبحيرات، بما يقارب ربع المياه العذبة في العالم، في المقابل فإن مساحة كوريا الجنوبية أقل من مئة كيلومتر مربع، منها نحو 70بالمئة أراضي جبلية غير مناسبة للزراعة والتطور الصناعي، وعدد سكانها يُقدر بنحو 51 مليون نسمة، وتكاد تفتقر للموارد الطبيعية، واتجهت كوريا الجنوبية إلى استراتيجية الاقتصاد الذي يتوجه نحو التصدير، من أجل تنمية اقتصادها، ففي عام 2012، كانت كوريا الجنوبية سادس أكبر مُصدّر، وسابع أكبر مستورد على الصعيد العالمي، ويعتمد الاقتصاد الكوري الجنوبي على قطاعات متعددة ومتنوعة، وبخاصة الصناعة، ومنها صناعة الإلكترونيات والسفن والسيارات والمنسوجات.
لماذا تهدر روسيا طاقاتها ومواردها الطبيعية والاقتصادية والبشرية والثقافية والتاريخية؟ وإلى متى؟ قدرات روسيا العلمية والتكنولوجية، التي تُقارِع الدول المتطورة، مُسخَّرةٌ للصناعات الحربية، فماذا يحصل لو استُخدِمت تلك الموارد والقدرات في الإنتاج المدني والصناعات الاستهلاكية القابلة للتصدير بقدرة تنافسية عالية؟ ألا تتصدر المراتب الأولى عالميًا في معظم المجالات والمؤشرات؟ ألا يتخلص الشعب الروسي من الفقر ويحدّ من البطالة ويُقلِّص الفجوة الهائلة في توزيع الدخل والثروات؟ نعم، ذلك كله مُمكِن ومُتاح نظريًا، ويتحقق عمليًا إذا تخلصت روسيا من عسكرة السلطات بثياب مدنية. وإذا حاربت المافيات والفساد بدلًا من محاربة الشعوب الأخرى الطامحة للحرية والكرامة، وإذا أسّست نظامًا ديمقراطيًا حقيقيًا لا شكليًا، يصون الحريات والحقوق والمُواطَنة، فالشعب الروسي يستحق ذلك وجديرٌ به، وبخاصة أجياله القادمة، وإلا فستتحقق نبوءة وزير المالية الروسي السابق ألكسي كودرين: “إن لم تتراجع روسيا عن تدخلاتها الخارجية وسعيها للتوسع، فإن مصير الاتحاد السوفيتي ينتظرها”.