أدب وفنون

“جريمة حُب”

– لا شك أنك ستصدقني القول، يا حامد، أجبني: أأنت فعلتَ ذلك؟

– قد قلتُ لكِ، يا آنسة، لستُ أنا.

– اسمع، يا حامد، قد أصدّق أنك لم تفعل، فأنت طالب مُجدّ، ولكن يصعب عليّ أن أصدّق أنك لا تعرفُ الفاعل! اسمعني جيدًا، أعِدكَ بأن لن يؤذيه أحد.. سينتهي الموضوع كله بتعهدٍ شفوي، قل لي همسًا إن شئت مَن الذي كتب الرسالة؟

– آنسة، ما عندي غير ما قلتُه لك، لا أعرف سوى أن تلك الورقة وُجدت على مقعد ليلى، بداية الحصة الثالثة، وأن سلوى أخبرتكِ بالخبر، ثم كان ما نحن فيه.

– طيب، يا حامد، ألا يمكنك أن تخمّن من هو! لا شك أنه منكم وفيكم، إذ لا أحد يدخل إلى شعبتكم إلا أنتم.

– آنسة، لا أعرف، ثم ليس بالضرورة أن يكون الفاعل من شعبتنا، هناك من بين طلاب الشعبة الأولى مَن يأتي إلى هنا، والجميع يعرف ويشهد.

– طلابٌ من الشعبة الأولى!! مثل مَن؟ أيمكنك أن تخبرني بأسمائهم!

– لا أعرف، لكِ أن تسألي سلوى هي عريفة الصف، ومؤكد أنها تعرفهم.

– حسنًا، سأتابع الأمر، اكتبْ هنا على هذه الورقة اسمَك، واكتبْ تحته بخطك المعتاد العبارةَ المدوّنة هنا، وارسم مثل هذا الشكل، ثم ضعِ الورقة على الطاولة عند الأستاذ وديع، وإلى جانبها دفترك ومقلمتك بكلّ ما فيها، وانتظر إلى جانب رفاقك..

أمسك حامد القلم بيد مرتجفة، وخطّ على الورقة الجملةَ التي أمرته أن يكتبها الآنسة رئيفة، ورسم مثل الرسمة، وتوجّه إلى الطاولة. أرجعَ الأستاذ وديع كرسيّه عن الطاولة قليلًا، وخفض نظارته قليلًا بشماله، وحنى رأسه حتى بدت كلتا عينيه من فوق النظارات، وبدأ يحدّق في حامد، وهو يطرق الطاولة بأصابع يمناه. كانت تلك المرة الأولى التي يرى فيها حامد باروكة الأستاذ وديع من هذه القرب، وحين شعر الأستاذ بأن حامدًا يسترق النظر إلى الباروكة، فاض غيظه، وقال بنبرة عالية: عيونكَ إلى أسفل، حين تُكلّمُ الأستاذ.. اكتب هذه الجملةَ بقلمك الأزرق هنا على هذه الورقة، ثم الكلمات التي سأمليها عليك تحتها… لن يُنجيك اليوم أنك الأول على صفك، إذا ثبت أنك صاحب الرسالة. وأقصّ يدي، إذا لم تكن أنت الفاعل يا حامد.. ظني لا يخيب أبدًا؛ فهذه الأناقة، وهذا الشَّعر المسرّح دائمًا، ليسا عبثًا، إن وراءهما لأمرًا.. وقسمًا باللهِ، إن ثبتَ أنك هو، أو أنك تعرف من هو؛ لأرينّك نجوم الظهيرة.. هيّا اكتب ثم انقلع إلى الجدار، عند رفاقك، ولا تلتفت قبل أن يُنادى عليك.

كتب حامدٌ العبارة المطلوبة، والكلمات التي أملاها عليه الأستاذ وديع، وتوجّه نحو الجدار، عند النافذة، حيث يقف خمسة تلاميذ آخرين، دفاترُهم من النوع الذي اقتُطعت منه تلك القصاصة، ويُشكّ في أن أحدهم كتب ما فيها، أو أعطاها لمن كتبها، أو يعرف شيئًا عنها، ووقف إلى يمين الصف بجانب صديقه محمود، وتبادلا ابتسامةً يشوبها الأسف، ثم سرح ببصره في أشجار الصنوبر الباسقة بين سور المدرسة وبنائها.

وبينما الصف كذلك: طلاب إلى الجدار، وطلاب واقفون في مقاعدهم وقد رفعوا أيديهم إلى أعلى، لمعت من الممر صلعة الأستاذ جميل مدير المدرسة وهو يدلف إلى الصفّ، وقد جحظت عيناه الضيقتان، وبدا وجهه أحمر مغبرًا، يرتدي طقمًا بنّيًا قريبًا من لون وجهه، وقد تدلّى غبب ذقنه، حتى كاد يغطي عقدةَ الكرافة. أيقن الجميع أن القصة كبيرة جدًا، وأن الأمر جد خطير، من دون أن تحيط أذهانهم بكُنه الإثم العظيم الذي ارتُكب. وقف المدير عند الباب، مقابل خمسة الطلاب الواقفين إلى الجدار، وتوجّه بالخطاب إلى الأستاذ وديع:

– ها، ما الأخبار؟ هل من جديد، يا وديع، أعرفتم الفاعلَ أم لمّا!

– حتى الآن، لا دليل ثابتًا على أحد، أستاذ.. هي ذي الأوراق بين يديك، بقي علينا تفتيش الشعبة الأولى، لأن من بين طلابها من يأتي إلى هنا، ثم نبدأ المقارنة الأخيرة والفرز؛ وعمّا قريب يُعرف الجاني ويأخذ نصيبه.. ولن ينجو، أعدِك.

– حسنًا، اصرفوا كلّ الطلاب ما عدا شعبتي الصف الخامس، وليبقَ المعلّمون في غرفتهم، عندنا اليوم اجتماع طارئ ومهمّ جدًا، وليغلق خميسٌ الأبواب من وراء الطلاب، لا أريد أن ينتهي دوام اليوم، من دون أن ينال الجاني عقابه. يجب أن نصل إليه، قبل أن يتكرر هذا الأمر ويشيع بين الطلاب.. والتفتَ إلى الأستاذ وديع، وقال مُسمِعًا التلاميذ: اسمع يا وديع، لن يكون هناك أي درس، قبل أن ينتهي هذا الموضوع.. ما الدروس، وما الكتب، وما المدرسة كلها، إذا كان طالب في الصف الخامس يفعل مثل هذا الأمر الفظيع؟! وتابع: ليذهب الأستاذ سمير، إلى الشعبة الأولى، وليجرِ معهم التحقيق، وعجّل إليّ بالخبر، يجب أن ننتهي من الأمر مع انتهاء الدوام.

مع بداية توقيت الحصة الخامسة، غادر جميع الطلاب فرحين إلى بيوتهم، إلا طلاب الصف الخامس الشعبتين ظلوا في صفوفهم، ودخل المعلمون إلى غرفتهم، بينما كان المدير في الشعبة الثانية، يقلّب الأوراق التي يقدّمها إليه الأستاذ وديع، واحدة تلو واحدة، ويقارن خطوط الطلاب المشتبه فيهم، بخط القصاصة التي وُجدت في مقعد ليلى.

توجّه الأستاذ سمير إلى الشعبة الأولى، كما طُلب منه، وطلب من كل طالب أن يضع حقيبته على المقعد، ويرفع يديه إلى أعلى، وبدأ التفتيشَ هو والآنسة رئيفة، وانتهت حملة التفتيش بالعثور على سبعة دفاتر من النوع المطلوب، من بينها دفتر لعصام ابن الأستاذ رضوان.

طلب الأستاذ سمير من الآنسة رئيفة أن تبقى عند الطلاب دقائق، وخرج على عجل قاصدًا الشعبة الثانية، حيث كان المدير والأستاذ وديع ينتظران أوراق الشعبة الأولى، وكانت ظنونهما تحلّق فوق ورقتي حامد ومحمود. أومَأ سمير إلى وديع أن يأتي إلى الممرّ دقيقة، وهمس له: مصيبة يا وديع.. مصيبة كبيرة.. يجب أن يُلفلفَ الموضوع فورًا.

– ما المصيبة يا رجل!! هاتِ ما عندك..

–  في الشعبة الأولى، وجدنا سبعة دفاتر من ذلك النوع.

– إيه، وأين المشكلة؟!

– المشكلة!! أقول لك إنها مصيبة، يا وديع.. من بين الدفاتر السبعة، دفترٌ لعصام ابن أستاذ رضوان، فماذا ترى، أنجعله يكتب لنقارن الخطوط أم ماذا!!

– ماذا!! عصام!! يا إلهي، كيف فاتنا أنه في هذه الشعبة؟!

– أخشى أن يكون هو الفاعل، يا وديع؛ فتكبر القضية، ثمّ تدور الدائرة على كل من له صلة بالموضوع، وأنت أدرى مني بما يمكن أن يقع! رضوان لن يدع الأمر يمرّ، ولا أظنك نسيتَ سبب نقل الأستاذ خلدون إلى قرية “أمّ المهافي”.. أرى أن علينا أن نُنهي القصة بأسرع وقت!!

– معك حقّ. سأخبر الأستاذ جميل حالًا، حقًا إنها لمصيبة.

قطع حديثَهما صوتُ المدير:

– ماذا وراءكما، سمير ووديع؟ كم دفترًا هناك؟

رفع الأستاذ وديع إصبعيه السبابة والوسطى مشيرًا إلى المدير، وقال بصوت يكاد أن يُسمع:

– أستاذ، أيمكن أن أتحدث إليك في المكتب دقيقتين، دقيقتين فقط؟

– ما الأمر؟ ماذا وراءك؟ كأنك تحمل إليّ مصيبة جديدة! نهار ملعون من أوله!

قام الأستاذ جميل، وكان قد أرخى كرافته فبدت عقدتها رخوة من تحت لحم ذقنه المترهل، ومشى إلى مكتبه ممتعضًا، يحاذيه الأستاذ وديع، ودخلا غرفة الإدارة. وقال:

– ها، هاتِ ما عندك، ماذا هناك أيضًا؟ ألم تجدوا دفاتر؟

– نعم أستاذ، ثمة سبعة دفاتر.. ولكن..

– ولكن ماذا؟ أين هي؟ هاتِها وأصحابها، خلّصنا، يجب أن نبدأ الاجتماع.

-أستاذ ثمة مشكلة لا أعرف أبعادها؛ من بين الدفاتر دفتر لعصام ابن الأستاذ رضوان، وأظنك ترى ما أرى: لا يمكن أن يفعل عصام فعلًا شائنًا كذلك، إنه طفل ولا يعرف هذه الأمور..

– ها! عصام منهم!!! بالطبع؛ مستحيل أن يهمّ بهذا الفعل. هذا مما لا يمكن أن يكون.

– وهذا ما قلناه أنا وسمير أيضًا: لا يمكن أن يكون هو الفاعل! ماذا تقول، أستاذ؟ أظن أن الأمر يحتاج إلى قرار سريع وحكيم في آن معًا، وعهدُنا بك أنك أهلٌ لذاك.

– هذا ما لم نحسب له حسابًا، يا وديع. بالفعل، علينا أن نتصرف بمنتهى الحكمة، وأن نقطع دابر هذي اللعنة.. لا حول ولا قوة إلا بالله، من أين أتتنا هذه المصيبة، لعن الله تلك الساعة التي أتتني فيها رئيفة بالخبر. اسمع، لفلف القصة بطريقتك، قل لهم إننا عرفنا الفاعل، ولكننا سنتجاوز عنه هذه المرة، لكوننا على يقين بأنه لن يعود إلى هذا الفعل مرة أخرى… ومن هذا الكلام. وحذروا الطلاب من مغبة هذه الأفعال، ثم اصرفوهم.. نعم اصرفوهم. وأحرق تلك الأوراق الملعونة كلّها بيديك أنت.. وسنقول -إن سُئلنا- إنها شغلة فاضية.. عجيان صغار يحاكون المسلسلات، ونؤكد أننا تداركنا الأمر ولا موجبات للقلق. أجل هو ذا الرأي، وأخبر الزملاء بأن الاجتماع مؤجل.

تمّ ما أمرَ به المدير، وانصرف الطلاب إلى بيوتهم، وفي طريق العودة، قال حامدٌ لزميله محمود: أعرفتَ ما المكتوب على الورقة، يا محمود؟

– لم أعرف بالضبط ما فيها، غير أني فهمتُ، من الكلمات التي كتبناها، أن فيها حديثًا عن الحُبّ والغرام وهذي القصص.

– وظني قريب من ظنك، يا محمود. تُرى من ذا الذي تجرّأ وكتبها، هل عرفته؟!

– ومن أين لي أن أعرفه!! الفضول يقطّعني لمعرفة هذا الفتى السعيد الذي حالفه الحظّ وأنقذه من مصيبةٍ لا تنقضي آثارها، يا له من سعيد! يا حامد، ما أسعده!! هنيئًا له: أبلغَ رسالاتِ قلبه وظلّ سالمًا!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق