هموم ثقافية

المسرح طاقة

أكثر ما يميز الفن المسرحي هو الطاقة “energy” الكامنة فيه/ الصادرة عنه/ المتفاعلة معه.. قد لا نراها بالعين المجردة، لكن فن المسرح –في الجوهر- ما هو إلا فن إنتاج وإدارة الطاقة البشرية الخلاّقة، وتحويلها من نشاط مادي/ حركيّ، إلى معنى فكري جمالي تشاركي. فالخشبة أو الركح المسرحي، كما يسميه زملاؤنا المغاربة، هي المكان الأمثل لشحن وتفريغ وتبادل الطاقات المتجددة للمجتمعات العاقلة. إنها “حيوية” بطبعها، كامنة مستدامة تنبع من ذاتها، ولا تحتاج إلى مشغّل أو مصدر خارجي، بل إلى إنسان متفاعل خلّاق فقط، حيث يكون الوعي هو المولِّد والمصدِّر للطاقات الإبداعية كلها.

إنها تشبه الفعالية الموجود في الطبيعة (الموج والشمس والذرّة والكهرباء والريح والوقود) لكنها واعية تفاعلية ذكية، ليست فيزيائية محضة ولا ميكانيكية عمياء، بل روحية معرفية، مصدرها العقل البشري لا الغريزة، ويتم توظيفها عبر خطة مدروسة لها غاية محددة. لذلك، لا تعدّ فنًا تلك الأشكال الهندسية المنتظمة التي تصنعها النحلة، ولا ما يخلفه نقّار الخشب من لوحات فوق جذوع الأشجار، ولا ما ينسجه العنكبوت من شِباك بالغة الدقة والصنعة، وكذلك الأزهار والغيوم والثمار والفراشات بألوانها وأشكالها الرائعة، التي ربما توحي إليك بفكرة ما أو تشحنك بطاقتها؛ لكنها لا تملك فكرة مسبقة أو خطة محددة لفعلها. إنها تبذل جهدًا كبيرًا في عملها، لكنه عمل غريزي وراثي متكرر منذ الأزل؛ قد يتحول إلى طاقة إبداعية، إذا تم توظيفه من قبل البشر.

فن الممثل يقوم على طاقة الفعل والتفاعل المدروسين، وهو عمل معقد جدًا، لأنه متنوع الأبعاد: فيزيولوجي/ جسدي، ونفسي/ عاطفي، وتفاعلي/ اجتماعي، سواء نشأ بين ممثل وشريك له في المشهد، أو بين ممثلِين ومتفرجِين على المشهد. وكل من هذه الأبعاد يحتاج إلى مقدرة خاصة، تكون مرة خارجية بدنية، تعتمد على طاقة العضلات والأعصاب ورشاقة الجسد، ومرة ثانية، تكون داخلية عاطفية، تعتمد على طاقة المشاعر والأحاسيس الدفينة، وثالثة تكون طاقة تواصل مع الآخر.. وأصعبها –طبعًا- تلك الطاقة التي تجعل الممثل قادرًا على الإقناع والعدوى، أي على شحن المُشاهد بطاقة الممثل الإيجابية أو السلبية التي يبثها جسده وروحه معًا؛ ما يجعله يحزن أو يفرح أو يخاف أو يغضب، أو يجبره على التفكير والانحياز واتخاذ مواقف نقدية تجاه ما يراه.

ولا يحدث هذا، إلا إذا نجح المخرج في حشد القوات الفردية المتباينة لعناصر العرض المسرحي، وجعلها متآلفة متجانسة في شحنة موحدة، تصب في هدف محدد، ولها نمط جمالي متناغم، يطلق عليه النقاد اسم “وحدة العمل الفكرية والفنية”! وهو -في الجوهر- وحدة الإرادة، أو الطاقة الإبداعية.. وما التدريبات المسرحية الشاقة إلا عملية شحن وتجميع وصقل للطاقات الفردية، كي تصبح مفعمة بالمشاعر، مندمجة في دينامية العرض.

وكما تتحول الطاقة الكهربائية إلى طاقة ضوئية بواسطة المصباح؛ كذلك تتحول القدرات الهائلة لعناصر العرض، من طاقة فيزيولوجية حركية بصرية (مجتمعة في بؤرة واحدة هي الخشبة) إلى طاقة كيميائية روحية، لدى المشاهدين في الصالة؛ وذلك، عندما تتحد الطاقة الحركية بالروحية، منتجة طاقة جديدة، هي الفحوى من هذا الجمال، أو لذة المعرفة، مؤكدة بذلك أن الغاية الرئيسية للفن، تتجلى في تحقيق المتعة والفائدة.

الجدير بالذكر هنا أن هذه الطاقة الإبداعية متحولة بالضرورة، لأن عناصر التمثّل فيها (المرسل والمتلقي) متغيرة بدورها، فهي حية وحيوية، نشاهدها أمامنا ونشارك فيها أحيانًا! لذلك نقول إن المسرح يولد ويموت كل ليلة وفي كل عرض، أي أنه الفن الوحيد المنتج لطاقة لا تتكرر؛ وهذا ما يميزه عن بقية الفنون التي تولد دفعة واحدة، كاللوحة والمنحوتة والشريط السينمائي، والتي نراها –عمليًا- مرة واحدة، لكن شحنتها لا تتغير ولا تتبدل، وإن تغير المشاهدون لها..

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق