سلايدرقضايا المجتمع

في باريس… شباب من سورية يجتمعون لنقل أصوات مناطقهم

ثلاثة شباب، من ثلاث مناطق مختلفة من سورية، يصلون إلى باريس لا لكي يشعروا بالأمان والخروج من دائرة الخطر، ولا لكي يبنوا لأنفسهم مستقبلًا أفضل قد يوفره لهم مكانهم الجديد، بل لكي يناضلوا من أجل من بقي هناك في ظروف مذلة من الحاجة وانعدام التعليم والأمن.

بلباس بسيط ووجوه متعبة، لكنها مضاءة بالجدية والإصرار، يتكلمون في اجتماع طويل رعته جمعية كودسي (التآلف السوري من أجل التنمية والإغاثة) في قاعة بسيطة في باريس. يتكلم، كل بدوره، عن ظروف المنطقة التي جاء منها، عن العمل الإنساني الممكن، عن الصعوبات التي يواجهها العمل. يتكلمون إلى حضور متنوع فرنسي وسوري وعربي: ممثلي جمعيات، أصحاب رأي، مهتمين بقضايا ضحايا الصراعات، صحافيين، حقوقيين.. الخ، لكن الجميع يشتركون في الاهتمام، والجميع يبحثون عن أفكار وعن سبل لمساعدة السوريين في الداخل السوري أو في بلدان اللجوء. يحرصون على أن لا تكون النجاة هوّة تفصل الناجي عن المنكوب والمتعثر. ناجون ولكنهم منكوبون بانشغالهم الصادق بالمنكوبين، ومنكوبون لكنهم ناجون أملًا وثقة بالناجين.

الشاب القادم من الغوطة الشرقية، يتكلم بصوت متقطع بفعل إعاقة ما، تشمل يده اليمنى وتعيقه عن حمل الماء إلى فمه، ما لم يساعدها باليد اليسرى الأقل إعاقة. يتكلم بثقة صاحب الهم، وباسترخاء المصمم، كأنه يقول: “تريدون حقائق، إليكم الحقائق!”. في كلامه المتقطع وابتسامته التي يزرعها في نهاية كل جملة، ينقل لك كم تعني له هذه البقعة المنكوبة من الأرض التي تدعى الغوطة الشرقية، والتي انتهى الاهتمام الإعلامي بها، بعد أن انتهى الصراع حولها بين نظام الأسد والتنظيمات الإسلامية التي كانت تسيطر عليها. يتكلم الشاب عن الحصار المفروض على الأهالي بعد ذلك، عن الحاجة إلى تصريح للخروج، وعن أن مدة التصريح لا تزيد عن الشهر، وعن أن من يدخل إلى دوما، مثلًا، من غير أهاليها “المعترف بهم”، سوف يُعطى رقمًا لضمان خروجه منها. عن ثمن صحن الفول الذي بلغ 600 ليرة سورية، وهو ما يعادل ثلثي الدخل اليومي للعامل السوري. ليقول، مع ابتسامته اللاذعة: “لا تبحثو عن مصادر التمويل، إذا تخلى أحدكم عن كأس واحدة من البيرة، يمكنه أن يشبع جائعًا في الغوطة”.

عن أكثر من 4.7 مليون نسمة، ثلثهم نازحون من مناطق أخرى من سورية، يعيشون في شمال شرق سورية، يتكلم شاب آخر قادم من هناك. السكان هناك ليسوا فقط موضوعًا للتشرد ونقص التعليم والحاجات الأساسية وتعاسة العيش، بل هم -أيضًا- موضوع لحرب لا ينتظرون منها شيئًا سوى المزيد من البؤس أو المزيد من الموت. عن هؤلاء، يتكلم الشاب باندفاع لا يهدأ، على الرغم من مطالبة الحضور له بالتوقف قليلًا، كي تتمكن المترجمة من نقل ما قاله إلى الحضور الفرنسي، يقطع كلامه سريعًا كي يهدئ المطالبين بعبارة: “بس شوي”، ويتابع بحماس كأنه لن يخرج من القاعة قبل أن تتأمن حاجات الملايين من الأهالي والنازحين هناك. وكأن الحماس وصدق النبرة كافيان لوصول الفكرة من دون ترجمة. يركز على أن المشكلة الكبيرة هي مشكلة قانونية، أن يكون للجمعيات شخصية اعتبارية قانونية معترف بها، تسمح لها بالتعامل المالي مع الخارج ضمن القوانين. يؤكد الشاب أن ما يصل إلى الجمعيات هو أقل من عُشر المبلغ الذي يُحوّل إليها، لأن هذه المبالغ سوف تمر عبر العديد من الفلاتر القانونية وغير القانونية.

تتكلم شابة قادمة حديثًا من سورية، من دون أن تحدد المنطقة التي كانت تنشط فيها، لأنها منطقة تحت سيطرة النظام. تتكلم عن خطر زاحف يتهدد سورية، وهو غياب التعليم. يجب أن نعلم أن أكثر من ثلث الأطفال السوريين في الداخل، أي ما يعادل 2 مليون طفل، هم خارج التعليم، بحسب منظمة (يونيسيف). تعمل الشابة، مع مجموعة من الشباب على سد الفجوة التعليمية الناجمة عن الصراع المزمن في سورية. التحدي الذي يواجهونه هو أن المنطقة ليست من لون سياسي ولا مذهبي واحد، على الرغم من أن الفقر وانعدام التعليم قاسم مشترك للجميع، وعلى مجموعة النشاط المدني أن لا تستثني أحدًا.

لا شيء يلامس العمق الإنساني أكثر من التضامن مع المنكوبين، من التفكير بمصير الغير، من الانشغال بمستقبل أطفال بلا أهل، أو بأهل عاجزين عن تأمين طعام أو تعليم لأبنائهم.

من المفارقات التي تعرضها علينا الصراعات العنيفة في عالم اليوم، أن شدة الاستقطاب السياسي الذي يولد الصراعات العنيفة ثم يتغذى عليها، تخلق -كلما تقدمت الصراعات وتأزمت- شروطًا تدفع إلى تجاوز السياسي بمجمله. يحدث ذلك حين تفرض الضرورات الحياتية للسكان نفسها كشأن أولي وأساسي وفوق سياسي، تتولاه جمعيات أو جماعات أو مؤسسات تهتم بالحاجات الحيوية لضحايا الحروب والصراعات. حين ينمو النشاط المدني غير المسيس، النشاط الذي يبقى على تماس مع الحاجات المباشرة للناس، سوف يفرض نفسه على النشاط السياسي ويحد من ميله الاستبدادي.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق