منذ أشهر ونحن معلقون على هذا الشكل، في منتصف السماء، من ياقات قمصاننا، على حبلٍ يمتدُ إلى ما لا نهاية، في الأعالي، على أمل أن تجف أجسادنا وثيابنا، لكن.. لا أجسادنا جفت، ولا حتى ثيابنا.
ــ أنت طبختي الفاشلة..
تذكرتُ ما قالته لي أمي في صغري، بعد أن انحنت على طنجرة الأرز فوق الغاز، لتكتشف أنها لم تعد صالحة للأكل.
أخذني صديقي لأعمل معه في معمل للبلاط.
كانت تمرّ بنا دائمًا، تتسول النقود لتشتري خبزًا، لاجئة مثلنا في هذه الأرض الغريبة، على الرغم من تآكل لون وجهها، وذاكرتها شبه المفقودة، إلا أن جمالها راق لي.
الأربعاء الماضي قال لي جابر:
– يحيى يأخذ هذه المرأة إلى خلف المعمل، يمارس معها الجنس مقابل المال.
شهقتُ، والشهوة في خيالي يسيل لعابها، لتبلل ثيابي الداخليّة، عرفتُ أن كلّ أهلها قتلوا، وهي أصيبت، ثمّ فقدت ذاكرتها، وظلت لأشهر في مشفى هنا.
الخميس الماضي، اختفى جابر لساعة، عندما عاد كان يشد بنطاله للأعلى بكسل، همس لي بخبث:
– كنتُ معها خلف المعمل..
غريزتي طارت فورًا إلى خلف المعمل، لتحوم كذئاب حول جسد امرأة عارية.
شاهدتها تتسول في الشارع، على الرغم من خلوه من الناس، إلا أنها كانت تمد يدها إلى الفراغ حولها، وكأن فيه أناس لا أشاهدهم، عقلها لم يعد يعمل بشكلٍ جيد بعد إصابتها ومقتل أهلها، كنتُ عائدًا من المعمل إلى غرفتي، اقتربتُ منها وهمست:
– على سطح ذلك البناء غرفتي، تعالي مساء الغد وسأدفع لك أكثر منهم.
في اللحظة ذاتها، وكأنهما توأم، قلبي ووجهها ارتبكا كثيرًا.
– لنذهب إلى خلف المعمل..
تمتمت بخجل دون أن تنظر في عينيّ.
– لا.. أنتظرك في غرفتي مساء الغد.
وجاء المساء، شربتُ كثيرًا من هذا النبيذ الرخيص، لكن.. شعرتُ أن ثمّة شيئًا غريبًا يشربني بطريقة غريبة، خلعتُ كلّ ثيابي.. رميتُ بجسدي العاري على الأريكة، تأملتُ نفسي وأنا استنشق نفسًا عميقًا، جسدي صار مظاهرة لا تهزم، صار لافتة عالية حتى السماء، لافتة ضد كل العسكر.
طَرقاتها اللطيفة على بابي أيقظتني، فتحته لها فشهقت امرأة الذاكرة المعطوبة، أشرتُ لها بسبابتي أن تدخل فدخلتْ وهي ترتجف.. ما أجمل خوفها، وقفتْ منتصف غرفتي، وأنا أرمي جسدي بغرور على أريكتي، أشعلتُ سيجارة.. وخوفها الذي ينضح من عينيها يداعب شهوتي المكبوتة في صدري.
– اخلعي قميصك..
صرختُ بها، ازداد ارتباكها وبخجل خلعت قميصها، تأملت نهديها وهما يرتعشان خوفًا، لا أعرف لماذا شعرت برغبة في الانتقام من نهديها الطازجين، والوقت مساء هادئ مناسب للانتقام من النهود.
– اخلعي بنطالك..
نويت في سري، وأنفاسي الحارة تكاد تختنق في صدري، أن أهزم كل مخاوفي المكبوتة هذه الليلة، جسدي مظاهرة عظيمة ستجرف كلّ شيء.
ارتباكها أنعشني جدًا، أنزلَتْه بارتباك، صار بنطالها على حافة ركبتيها.
– أبعِدي يديك..
صرخت بها مستمتعًا، من يشرب خوفها الجميل الآن، لن يشرب هذا النبيذ الرخيص، لا شيء في حياتي أمتعني كما أمتعني خوفها العاري أمام أريكتي.
مرّة، في القرية.. همس لي جدي في طفولتي، وهو يلف سيجارة فوق كأس شاي ثقيل، بين حقله ومغيب الشمس:
– الخائفون ينتقمون دائمًا من أنفسهم..
– اخلعي بنطالك كلّه..
صرختُ بها من فوق كأس النبيذ، بين أريكتي وشروق رعبها. لأول مرّة ترفع رأسها إليّ.. نهضتُ إليها، في ثانية لمحتُ نفسي في عينها، شبحًا يريد الانتقام، خوفها دفعها، فرفعت بنطالها مجددًا إلى خصرها، استغربت منها، تعرت من بنطالها حتى ركبتيها، لم تخجل أن أشاهد وسطها، وخافت أن أشاهد ساقيها.
دفعتها إلى السرير والتقطت بنطالها من خصرها، صرخت برعب غريب، لكنني نزعته عنها بقوة.
في الجامعة، لم أكن أتأمل خلسة أرداف الجميلات، كنت أمعن نظري في عيونهن، لأشاهد وجهي، وأصحح أيّ خطأ يمكن أن يكون قد طرأ على تسريحة شعري.
سنوات الحرب جعلتني كائنًا أخر، لديه ذكريات جيدة عن كائن لا يشبهه الآن.
وأنا أسقط أرضًا مع بنطالها علا بكاؤها، شهقتُ بخوف.. لمَ حدث كلّ هذا؟ لا أعرف؟ نظرتُ إليها مذهولًا، هذا آخر ما يمكن أن أتوقعه، من ركبتيها حتى الأسفل، يوجد ساقان اصطناعيتان.
صرتُ سلحفاة هرمة وأنا أحبو عاريًا حتى الزاوية.
بكتْ طويلًا، بكاؤها صار شارعًا والسيارات فيه تدهس روحي دون رحمة.
ضمتْ ساقيها الاصطناعيتين إلى صدرها ونامت، ودموعها على خديها تمارس الحب بتعاسة مع ذاكرتها المعطوبة.
دخلوا بهدوءٍ مع بعض إلى غرفتي، لم أفهم كيف وصلوا إلى هنّا.. بصقوا بصمت على كلّ شيء فيها، ثمّ اقتربوا مني ليحاصروا جسدي العاري في هذه الزاوية.
معلم المدرسة في طفولتي، قال لي:
– اللعنة عليك يا رخيص..
خالي الذي قُتل في الحرب، همس لي:
– لو أن الحرب قتلتك
أمي أكدت وهي تهز رأسها بأسف:
– أنت، طبختي الفاشلة..
جدي تمتم لي دون أن ينظر في وجهي:
– الخائفون ينتقمون دائمًا من أنفسهم..
وخرجوا معًا على هيئة بخارٍ، تصاعد عاليًا ليطلع من الشباك إلى حيث لا أدري.
خنقتني ببطء مريع كلماتهم، أما تلك العارية، بلحمها وبـ بلاستيكها على سريري، مزقتْ أحشائي.
لم أستطع النوم، نوبة المخاوف الغامضة عادت إليّ مجددًا هذه الليلة، وكانت أقوى من النوبات المشابهة لها في الليالي السابقة.
خلال نومها الهادئ، التقطتْ امرأة الذاكرة المعطوبة، طرف الغطاء وشدته لتغطي به رجليها الاصطناعيتين من كل جسدها العاري، وكأنهما فقط، هما عورتها. وكأن هذا البلاستيك مكان قدميها هو عورتها لا نهديها وبقية جسدها. خجلت هذه التعيسة من قدميها الاصطناعيتين ولم تخجل من صدرها العاري، تغير الحرب رويدًا رويدًا الكثير من المفاهيم عند التعساء.
في المعمل، صرنا نسمي ذات الساقين الاصطناعيتين “ذاكرتنا المعطوبة”.
بعد يومين، لم نفهم ما الذي هطل علينا وبللنا أمام باب المعمل، المطر الغزير أم ذلك الخجل هو الذي غسل وجوهنا، لقد تبللنا حتى أعماقنا، بالمطر أم بالخجل؟ لا أعرف لكننا تبللنا بشكلٍ غير طبيعي. عندما كنا نحكي عن آخر أخبار الحرب، ومرّتْ من أمامنا امرأة الذاكرة المعطوبة، لتقف قليلًا وترمقنا معًا بقهر.
آنذاك، يدٌ عملاقة امتدت من السماء، لترفعنا من ياقات قمصاننا، كما خيل لنا، وتعلقنا على حبل ممتد إلى ما لا نهاية، في الأعالي، حتى نجف من هذا البلل المريع.
مرّ الزمن، ولم يجف حتى الآن أيّ شيءٍ فينا من البلل، بما في ذلك.. تلك المخاوف العميقة.
- اللوحة للفنان السوري بهرم حاجو