ليس الخيال ضدًا للعقل ولا نقيضًا للواقع، وإن بدا كذلك في كثير من الحالات الملموسة، التي يعبر فيها عن حالة مرضية أو غير واقعية أو متوهمة، بل لعله قوة خلاقة تؤسس “طبيعة ثانية للإنسان، بعد أن أسس العقل الطبيعة الأولى”.
تبعًا لتوهان الفلسفة لزمن طويل، ظلّ النقد العربي، يقرن الخيال بالفنتازيا وبالحلية والتزيين، ويعتبره مجرد ملكة لتشكيل الصور والجمع بينها في لوحات شعرية، وفقًا للتتابع الذي يحاكي وقائع الطبيعة، ولكن من دون أن يمثل أي شيء في الواقع أو يعكس الموجود، فهو بالتالي أشبه بظلال السحابة على الأرض، ولكن تتابع الدراسات الفلسفية الغربية وما انعكس منها في دراسات نقدية أدبية، شكل خطوة متقدمة في إعادة الاعتبار للخيال، وفك أسره من الاحتباسات التي تركته طاقة تزينية شبه معطلة معرفيًا وفنيًا ووجدانيًا.
لقد حررت فلسفة عمونيال الخيال من تلك الاعتبارات الشعبوية العامة، ولم يعد يسبح في فلك المستحيلات، أو يستحضر للدلالة على كل ما هو ميتافيزيقي أو لا واقعي ولا علمي أو مرضي، وميزت تلك الفلسفة بين الخيال التذكري والخيال المبدع، وأسندت إلى الخيال المتعالي مهمة التأليف بين مقولات الذهن ومعطيات التجربة الحسية (فأعادت بذلك الاعتبار للذة التجربة الإدراكية، وسلكت هذا السبيل للإطلال على الزمان والوجود والعالم) وبذا صار الخيال منافسًا خطرًا لقوى العقل ومجالات المعرفة، وذهب المفكرون والفلاسفة في تعريفه وتحديد ماهيته كل مذهب، مدعمين آراءهم بالوقائع الفكرية والحسية والإدراكية، من دون أن ينتهوا، وليس متوقعًا أن ينتهوا، من دراسة موقعه الإشكالي والافتراضي النظري، باعتباره قوة أو طاقة من قوى النفس البشرية، ولا أن يتفقوا على ماهيته ولا على تحديد دوره في المعرفة والإبداع الجمالي وعلاقته بالوعي والذاكرة والوجدان، بوصف الوجدان خزانًا للعواطف والمشاعر والأحاسيس والذوق.
لقد خطا فرانسيس بيكون في دراسته لماهية الخيال، خطوة حاسمة نحو الحرية، حين اعتبر في دراسته الإبداعية أنّ “الخيال هو إمكانية كل الأنواع غير الشرعية من إبرام (عقد) الزواج والطلاق بين الأشياء”. فهو قد أسس لمسألة تمرد الخيال على قيود العقل وصرامته وصولًا إلى الحرية، وردّ ردًا مفحمًا على تنزيل العقل منزلة السيد المطلق، وعلى تفضيل لغة التجريد على الإنصات إلى التجارب والرجوع إلى الوقائع الخام والاحتكام إلى لغة الحياة، وهو الرأي الثوري الذي تبنته الرومانسية الغربية في انقلابها على القيم الكلاسيكية العقلية في الآداب والفنون عامة، وعبره أعطت ذخرًا إنسانيًا هائلًا، تميز بحدة العواطف وقوة الخيال والشفافية.
كذلك، تتبعت الدراسات المختصة ملكة الخيال، في سجلات المعرفة واللغة والدين والفن والأحلام والوعي والذاكرة والانفعالات والأهواء، وميزت بين فعل التخيل وملكة الخيال وتجربة المخيال. ولما كانت المسافة بين الحدين أو القطبين المتقابلين (السالب والموجب للخيال) في النظرية والتنظير، قابلة للقلة والنقصان أو التطرف والمغالاة، تبعًا لمنهجية هذا المفكر أو ذاك؛ لم يعد مستغربًا أن نجد ألبرت أنشتاين -تبعًا لمنهجه الميتافيزيقي- يعدّ “الخيال أهم من المعرفة” وذلك لأن الخيال -بحسب رأيه- يشكل رؤية مسبقة لجاذبية الحياة المستقبلية.
أما علماء النفس فلم يقفوا عند حدود الخيال للمرضى والمصدومين والمهلوسين والمهوّسين والمصابين بمختلف الأمراض السيكولوجية والعصبية، بل تنبه بعضهم إلى وقوع الخيال في الفضاء الإشكالي الواسع بين طرفين نقيضين: أحدهما سالب يصل بصاحبه إلى حدّ الجنون، وآخر موجب يرتفع إلى أقصى درجات الإبداع. وأشاروا -ولو بإشارات لماحة- إلى تلك التخوم المتماهية بين شكل من أشكال الإبداع وآخر من أشكال الجنون، وأطلقوا تعبير (جنون المبدعين) ولعلنا قد لمسنا شيئًا من هذا عند الشاعر سعيد عقل، الذي بدا كمجنون إبداع ومن ثم مجنون عظمة. ولا زلنا نحن والعامة نحار في نسبة الحدوس وأنواع التراسل والتداعي إلى قوى العقل أم إلى ملكة الخيال، بل ما زال المجال يتسع لمزيد من الأبحاث والتقصي في علاقة الخيال بالعاطفة والوجدان أو المشاعر والأحاسيس، إذ يبدو واضحًا أنّ لاهتزازات المشاعر العاطفية ودرجة اضطرابها دورًا كبيرًا في طبيعة ومدى إبداع وتأثير الصورة الشعرية واللوحة الفنية والموسيقا.
اللافت أن النقد الأدبي العربي قد ظلّ يحوم ويتحوط في تعاطيه مع الخيال في الشعر، ويتعاطى معه عبر عزله عن المشاعر والأحاسيس وعن المعرفة الحدسية والعرفانية، ولم يكن ينظر إلى الصورة الشعرية باعتبار نماذجها الأكثر إبداعًا، بؤرًا مفعمة بالعاطفة والخيال، ولقد ظلت هذه الرؤية التي سبق إليها وتوقف عندها المرحوم عز الدين إسماعيل؛ هامشية في النقد العربي الحديث، لولا بعض الدراسات التي تنضح من النقد الأوروبي أو تترجم عنه.
وأعتقد أنه ما كان لهذا الخيال المبدع أن يتحرر من سطوة العقل وقيوده، لولا أن شكّل اتقاد العاطفة وحدة المشاعر، قوة قدح لزند الخيال ومحركًا استثنائيًا لملكته، مما يجعل من الصورة الشعرية الفنية مختبرًا أو مرجلًا فعليًا لتفاعل حدة الشعور والذكاء وقوة الخيال؛ إذ ثمة إشارات عامة تربط صدق العاطفة وقوة الإبداع في الخيال، بشدة المعاناة في الحزن أو الحبّ أو غيرهما، وهو الجانب الذي عملت عليه الرومانسية الغربية وما تبعها من الشعر والأدب العربي عامة، حيث شكلت تلك الحرية العاطفية المتماهية مع الخيال الحر في الآداب والفنون ثورة تميزت بالعمق العاطفي والبعد العرفاني والإيحائي للخيال.
ومن الملاحظ حديثًا أنّ كلّ سردياتنا ومظلومياتنا السورية، ترتبط -بهذا الشكل أو ذاك- بالخيال العام أو ما يسمونه المخيال الشعبي، لذا لا يجوز اعتبار الخيال ضدًا أو نقيضًا للعلم، لأنه طاقة كشف خلاقة في علوم الفيزياء والرياضيات، وقد يلتقي العلماء في هذا المجال مع الشعراء والفنانين ورجال السياسية في فلك الخيال الدوار والمتسارع، وإن اختلف مجال ونتائج كل منهم عن الآخر. نعم لقد “أسس الخيال طبيعة ثانية بعد أن أسس العقل الطبيعة الأولى”، وحان لنا أن ندرك دور الصور الفنية باعتبارها خيالًا في إنتاج المعرفة والفهم والتأثير العاطفي، بحيث لا يمكن لنا أن نُخرج أبا تمام والمعري من دائرة الشعراء إلى دائرة الفلسفة، تبعًا لذلك، بالرغم من أنّ أشعار المعري ذات بعد فلسفي عرفاني يتلامس مع أشعار المتصوفة، وينهض على قوة الخيال وحدته وعمق الشعور به.