في بداية آذار/ مارس الماضي، قبل أيام من الذكرى الثامنة لاندلاع الثورة في 2011 ضد بشار الأسد، قام النظام السوري بتنظيم احتفال صاخب في الميدان الرئيسي لمدينة درعا الجنوبية لكشف النقاب عن تمثال برونزي جديد لحافظ الأسد (والد بشار).
يصور التمثال الأب حافظ وهو في مظهر شاب مدمج من الخصر إلى صخرة كبيرة على قاعدة التمثال، مع سلسلة من الخطوات المؤدية إلى النصب. إن تمثال حافظ، وهو جنرال استولى على السلطة في عام 1970 من خلال انقلاب ضد رفاقه في حزب البعث وحكَم سورية بقبضة حديدية حتى وفاته في عام 2000، يبدو قابلًا للتحريك، وغير قابل للتدمير، وقبل كل شيء، يبدو أنه أبدي. مع وضع يديه على أكتاف طفلين مرعوبين ملتصقين بخصره ويمسكان بسيقان من القمح المحصول الرئيس في محافظة درعا الزراعية.
حلّ النصب الجديد، الذي شيد بجوار قصر المحافظ بحراسة على مدار الساعة، محل التمثال الذي دمره الحشد الغاضب في آذار/ مارس 2011، بعد أن أطلقت قوات الأمن النار وقتلوا متظاهرين في الشارع، إضافة إلى قتل المحتجزين في مساجد في درعا. كان أهل درعا قد هتفوا من أجل الحرية والكرامة، وتجرؤوا على خرق الخوف الذي فرضته أجهزة أسد الأمنية، وألهموا بقية سورية في النهوض. جاء الرد العنيف من طرف الأخ الأصغر لبشار ماهر وقريبه حافظ مخلوف مع متابعة مباشرة من الدكتاتور السوري، وفقًا لأدلة جديدة منشورة في كتابي: (الأسد أو نحرق البلد.. كيف دمّر توق عائلة واحدة للسلطة سورية).
حُكم سورية هو شأن عائلي إلى حد كبير، لقد كان الأمر كذلك منذ ما يقرب من خمسة عقود، وسيظل كذلك في ما يتعلق بالأسد. (الأسد أو نحرق البلد) كانت الكتابات على الجدران التي خطّتها الميليشيات الموالية على جدران الأحياء والمدن التي دمرها ونهبها واستعادها من المعارضة، واحدة تلو الأخرى، منذ عام 2011. في تلك السنة، راهن كثير من القادة الغربيين على زوال الأسد، لكنه التمس الدعم العسكري والسياسي من إيران وروسيا. استعاد النظام وحلفاؤه الكثير من سورية في عمليات الأرض المحروقة التي لم يسلم منها المدنيّون ولا المستشفيات ولا المدارس. هذا السيناريو يكرر نفسه في محافظة إدلب، آخر مكان تسيطر عليها المعارضة. يبدو أن شعار النظام هو: “إذا كان ثمن بقاء حكم عائلة الأسد هو تدمير البلد؛ فليكن كذلك”. الكتابة على الجدران، والآن التماثيل، بما في ذلك الموجود في درعا، هي رسائل تذكير بهذا المنطق الوحشي بطريقة وقحة جدًا.
كما أعيد تمثال حافظ، في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، إلى وسط مدينة دير الزور الشرقية، بعد أن نقله النظام في عام 2011، خشية أن يحطمه المتظاهرون. في آب/ أغسطس 2018، قام الموالون للنظام بنصب تمثال حافظ في حمص، بعد أن خضع لعملية تجديد كبيرة شملت تركيب أضواء جديدة ونوافير مياه حوله. حمص، المدينة التي أطلق عليها “عاصمة الثورة” عادت إلى الأسد في عام 2014، بعد حصار مدمر وحملة عسكرية خلفت الخراب في وسط حمص وأفرغتها من سكانها الأصليين. في 15 نيسان/ أبريل الماضي، تم الكشف عن تمثال نصفي جديد لباسل الأسد، أخ بشار الأكبر وخليفة حافظ الذي مات في حادث سيارة عام 1994، في دير الزور؛ كان هذا التمثال أصغر من ذلك الذي دمره المتظاهرون في نيسان/ أبريل 2011، وهو يمتطي الحصان. لا توجد تماثيل لبشار حتى الآن، الذي ورث السلطة من حافظ في عام 2000، ولكن صوره إلى جانب الشعارات المتشددة تنتشر في كل مكان في سورية.
إن إعادة نصب التماثيل ونشر اللوحات الإعلانية هي طريقة الأسد في إخبار المجتمعات التي تمردت عليه من قبل، أن أي مقاومة أخرى لا طائل منها. إن إعادة هذه الرموز تؤكد الرسالة التي تقول إن عائلة الأسد قد غلبت على الرغم من التكلفة الباهظة: أكثر من نصف مليون قتيل وتدمير هائل ونزوح سكاني، واقتصاد في حالة يرثى لها، بلد ومجتمع متصدعين، ونظام لا يستطيع البقاء من دون دعم رعاة أجانب مثل إيران وروسيا.
“الرسالة واضحة للغاية”، قالها لي ستيفن هايدمان، مدير برنامج دراسات الشرق الأوسط في كلية سميث، والخبير البارز بالشأن السوري: “لقد عدنا”. وقال هايدمان: إن إعادة نصب التماثيل هي “تعبير عن الانتصار من جانب النظام” وكان ذلك “محبطًا للغاية” لمعارضيه. وأضاف: “إنها استراتيجية قوية للغاية وذات مغزى”.
إن استخدام التماثيل كتعبير عن السلطة والسيطرة والهيمنة ليس فريدًا على سورية؛ إنها ميزة أساسية لجميع الأنظمة الاستبدادية، بما فيها الاتحاد السوفياتي السابق، كوريا الشمالية والعديد من جمهوريات آسيا الوسطى. في تلك البلدان كان استخدام التماثيل محاولة لحشد الأمة حول رمز أو قائد، إلا أن الأمر في سورية يبدو مختلفًا: تهدف هذه التماثيل إلى تعزيز الخوف من القمع الذي يمارسه النظام ضد المعارضة، ولا سيما في أثناء الصراع وبعده. المثال الأقرب هو العراق المجاور، حيث تضاعفت تماثيل صدام حسين في الثمانينيات والتسعينيات عندما واجه ضغوطًا داخلية خارجية.
في سورية، سعى حافظ الأسد لبناء عبادة للشخصية منذ اللحظة التي أمسك فيها بالسلطة، وأصبحت تماثيله أكثر انتشارًا في كل مكان بعد انتصاره في معركة قاسية في آواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات ضد متظاهرين سلميين ومعارضين سياسيين ومتمردين إسلاميين، وهذا لا يختلف عما واجهه ابنه منذ عام 2011. شيد تمثال حافظ فوق حماة، المدينة التي ارتكبت قواته فيها مذبحة بحق أكثر من 7000 مدني وسويت أحياء كاملة بالأرض. واتبع بشار هذه الوصفة في عام 2011. مثل والده، بداية سحق أولئك الذين احتجوا ضد نظامه، مما أجج التشدد والتطرف والذي تحول بشكل كامل إلى صراع مسلح. كان بشار مدفوعًا بنفس الرغبة في المعاقبة الجماعية لكل سكان المدن والبلدات التي عارضته. كان على الناس في هذه المجتمعات أن تقوم بالهتاف لبشار، وهم مهانون ومهزومون، بنفس الطريقة التي ردد بها آباؤهم لحافظ بعد أن فرض نفسه من جديد. ثم أعاد بشار التماثيل للسبب نفسه الذي أقامه حافظ الأسد في المرة الأولى: الإذلال.
كان لدى مناف طلاس، صديق الطفولة لبشار والعقيد السابق في الحرس الجمهوري الذي انشق في عام 2012، التعليق الخاص حول إعادة التماثيل، فقد أخبرني عندما التقيت به في باريس، حيث يعيش هناك منذ سبع سنوات: “أعلن بشار النصر، ولكنه لم يستطع حتى الآن حصد ثماره”. أشار طلاس إلى حقيقة أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قد صعدتا مؤخرًا -ولم تخففا- من العقوبات على نظام الأسد، فضلًا عن السخط المحلي الواسع النطاق بين شرائح كبيرة من السكان، بسبب الظروف الاقتصادية البائسة ونقص الوقود في الآونة الأخيرة. “يعرف بشار في قرارة نفسه أنه لم ينتصر حقًا، والتماثيل هي لإقناع نفسه بطريقة أو أخرى”.
في كل المناطق التي استعادها بشار، بما في ذلك مسقط رأس طلاس في ريف حمص، الناس خائفون، ومحبطون، ويجابهون المعاناة، لكن ليس لديهم من خيار سوى البقاء. أخبرني أحد سكان دمشق، طلب عدم الكشف عن هويته خوفًا من الانتقام بسبب التحدث علنًا: “يخاف الناس من كل شيء، حتى من بعضهم البعض، التماثيل دليل على أن النظام مصمم على مواصلة حكمنا بالتهديد العسكري فوق رؤوسنا”.
في الماضي، أخبر بشار، حتى أثناء تمثيله صورة المصلح، أصدقاءه، ومن ضمنهم طلاس، أن “السوريين لا يمكن حكمهم إلا إذا كان الحذاء فوق رؤوسهم”. الآن يبدو أن هناك القليل من الذرائع.
العنوان الأصلي | Syria’s New Assad Statues Send a Sinister Message: ‘We Are Back’ |
الكاتب | Sam Dagher |
المصدر | أتلانتيك 7 حزيران/ يونيو 2019 The Atlantic |
الرابط | https://www.theatlantic.com/international/archive/2019/06/new-assad-statues-syria-regime-stay/590965/ |
المترجم | وحدة الترجمة والتعريب/ محمد شمدين |
صورة الغلاف: مقاتل كردي يطلق النار على تمثال باسل الأسد (شقيق بشار الأسد) في الحسكة، سورية، في آب/ أغسطس 2016. رودي سعيد / رويترز.