تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

الإدارة الأميركية وصفقة القرن

أطلت علينا تسريبات صحفية جديدة، عن بنود “صفقة القرن” المزمع إعلانها قريبًا، وفق آخر تصريحات مستشار وصهر الرئيس الأميركي ترامب، وتبعها موجات غضب واحتقان عربية وفلسطينية شعبية كبيرة جدًا، وإن كانت انفعالية، وربما آنية، في حين اكتفى الجانب الأميركي بالتعليق على التسريبات بأنها لا تعبّر عن فحوى الصفقة، ويجب على المعنيين والمهتمين انتظار الإعلان الأميركي الرسمي ودراسته، بدلًا من الدخول في سجالات مبنية على مجرد تكهنات وتسريبات صحفية لا أكثر، وكأننا أمام جسّ نبض أميركي لطبيعة وشكل الرد الشعبي على الصفقة، بالتوازي مع تهيئة الأجواء الشعبية والعربية، وربما اليهودية، لها في هذه المرحلة تحديدًا.

وبغضّ النظر عن فحوى الصفقة ومدى تطابقها مع ما سربته صحيفة (يسرائيل هيوم) العبرية، فالوقائع الميدانية والسياسية، المحلية والدولية، تعبّر بوضوح عن الفحوى الحقيقي للصفقة منذ مدة بعيدة، وخصوصًا في ما يتعلق بفشل حلّ الدولتين، والاكتفاء بكيان فلسطيني ضعيف وعاجز، محاصر وخاضع كليًا للاحتلال، يقوم بإدارة الأمور الحياتية اليومية، ويحفظ أمن الاحتلال فقط لا غير، بما يمكن عدّه إدارة “سلطة” محلية أو ذاتية لا أكثر، من دون جيش وموانئ وحدود خارجية مستقلة، واقتصاد حقيقي متكامل، لذا لن نحصد نتائج حقيقية وملموسة من أي ردة فعل متسرعة وعفوية على الصفقة وبنودها، من دون إحداث تغيير جذري، سواء اليوم أو بعد الإعلان الرسمي عنها، بغض النظر عن توقيته، وقد عوّدنا الجانب الأميركي على تأجيله المتكرر، حتى بتنا لا نستبعد المماطلة به لأشهر عديدة قادمة، قد تناهز العام.

ولنتمكّن في المستقبل المنظور من تأسيس أو تنظيم ردّة فعل حاسمة وواضحة وفعّالة تجاه الوضع القائم، والصفقات الأميركية والإسرائيلية المزمع فرضها علينا، لا بد من إدراك مكمن الخطر الحقيقي بعيدًا من أسلوب الخطاب الترامبي العنجهي، والتغطية الإعلامية المتسرعة، والخطاب الرسمي الفلسطيني والعربي التسويفي، فمن مراجعة السياسيات والممارسات والإجراءات الدولية والإقليمية والمحلية، في مرحلة ما قبل ترامب، وتحديدًا منذ توقيع اتفاق السلام المشؤوم “أوسلو”، يمكننا ملاحظة الخطوات الحثيثة والمتعاقبة من أجل تنفيذ بنود صفقة القرن، وإن غاب في الماضي استخدام تعبير “صفقة القرن” والأسلوب الترامبي عن المشهد، فنلاحظ تهويد مدينة القدس، وتشديد القيود على سكانها العرب، ودفعهم نحو مغادرتها مرغمين، إضافة إلى شق مناطق الضفة عبر جدار الفصل العنصري وعبر زرع المستوطنات، وتمددها وتكاثرها الدائم والمستمر، من أجل قضم الأراضي الفلسطينية، وعزل المزارع والحقول عن المناطق السكنية الفلسطينية، ومنع التواصل الجغرافي بين البلدات والمدن الفلسطينية، فضلًا عن أَسر غزة، وحصارها برًا وبحرًا وجوًا، وعزلها عن سائر المدن والبلدات الفلسطينية والدول العربية، وأخيرًا تأزيم الأوضاع الأمنية والسياسية والقانونية المعنية بفلسطينيي الداخل، بغرض دفعهم إلى الرحيل أو الخنوع والاستسلام لحاجات وأهداف النظام العنصري والاستيطاني الإسرائيلي.

من الواضح، من الواقع الملموس، سير جميع الإدارات الأميركية والصهيونية والدولية السابقة على مسار ترامب ونتنياهو، وإن تمّ تطعيمه أحيانًا ببعض المواقف الخادعة، مثل الضغط الذي مارسه الرئيس الأميركي السابق أوباما، على الاحتلال من أجل الحد من المسار الاستيطاني، وخصوصًا في مناطق الضفة التابعة نظريًا لسلطة رام الله، والجهود الأوروبية الحثيثة التي أسفرت عن توقيع اتفاق باريس الاقتصادي المجحف أصلًا، أو التي صبت باتجاه تعطيل المخططات الإسرائيلية تجاه بلدة الخان الأحمر، وغيرها من المواقف والخطوات الدولية والإقليمية، التي لم تهدف، بأي شكل من الأشكال، إلى إحداث تغييرٍ حقيقي وجذري على الأرض، ينصف الفلسطينيين ويمنحهم حقوقهم، حتى بما يتناسب مع القانون والتعهدات الدولية، المصاغة بطريقة تكفل صيانة “حقوق إسرائيل” وحمايتها وقوننتها!

وعلى ذلك؛ يجب الانتباه إلى أن المشكلة لا تكمن بإدارة ترامب أو نتنياهو أو تزامنهما مع بعض، بقدر ما تكمن في سلسلةٍ طويلة وعديدة من الممارسات المتراكمة التي أفضت إلى خلق واقع ميداني وسياسي وأحيانًا إلى واقع قانونيٍ جديد، لا يمكن الخروج منه بسهولة ويسرٍ كما قد يعتقد البعض، فإذا فشل ترامب في البقاء رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، نتيجة الضغوط الداخلية أو بفعل العملية الانتخابية المزمع إقامتها العام القادم، فإن ذلك لن يعني موت بنود صفقة القرن القائمة على الأرض، حتى لو تم سحب الصفقة من التداول السياسي والإعلامي، لأن التغيير الوحيد الملموس ميدانيًا، بين حقبة ترامب ومن سبقه، يتمثل في تسارع الأحداث، وفي الخطابة والأسلوب السياسي والإعلامي، في حين تسير جميع الإدارات الأميركية السابقة والراهنة على ذات النهج والمسار السياسي، طبعًا ينطبق هذا الوصف على حكومات الاحتلال اليمينية، والتي تدعي اليسارية منها.

وبالتالي فمن الضروري المسارعة نحو إجراء مراجعةٍ فلسطينيةٍ شاملة، من البرنامج الفلسطيني إلى الآليات والأسلوب النضالي، مرورًا بمنظمة التحرير والواقع السلطوي في الضفة وغزة، يقوم على تحديد أخطاء البنى القائمة ومشكلاتها، من دون إغفال تأثير التمويل والظرف الإقليمي والدولي السلبي غالبًا، على المسار السياسي الفلسطيني وإمكانياته الواقعية، أي علينا العمل على تأسيس ردٍّ فلسطيني منظم، على إفرازات “أوسلو” والمسار التفاوضي الاستسلامي كاملًا، وفي خضم هذا السياق يتم التصدي للصفاقة والوقاحة الأميركية والصهيونية المتجسدة، اليوم، سياسيًا بصفقة القرن، وميدانيًا بالاعتداءات الإسرائيلية، وما دون ذلك لن يفضي إلى أي شيءٍ ملموس، وإن نجح في تأخير الإعلان عن الصفقة المزعومة أو في إلغائها، فصفقة القرن الحقيقية هي الإجراءات والممارسات والوقائع الميدانية التي يتم فرضها يومًا بعد يوم، بانتظار ساعة إعلانها السياسية والإعلامية.

لقد أطلقت مجموعةٌ من الشبان الفلسطينيين حملةً إلكترونية على صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي، تحت مسمى (اهبد) بهدف فضح زيف وكذب الرواية الإسرائيلية ورعاتها الدوليين، بما يتضمن المغالطات والتسويفات التي أقرها وما زال يعتزم إقرارها مستقبلًا الرئيس الأميركي، ضمن صفقته الخاوية، أو عبر قراراتٍ وإجراءاتٍ أميركية جديدة، تكرس واقع الاحتلال، وتحاول إكسابه شرعيةً قانونيةً زائفة، وهو ما يدفعنا للاعتقاد بأننا بحاجة إلى هبدٍ موازي ومتوازي لكلّ زيف ومغالطات القيادات الفلسطينية، التي تتحمل -بعد الاحتلال وداعميه الإقليمين والدوليين- مسؤولية الوضع الراهن وتبعاته الخطيرة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق