تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

أميركا وإيران ولعبة “العدو الشريك”

كثير من الجعجعة، وقليل من الطحين، هذا ما يمكن أن تُختصر به حقيقة التصعيد الأميركي الأخير على إيران، وهو ليس جديدًا في مسلسل العلاقات الأميركية الإيرانية المأزومة فعليًا، منذ انتصار الثورة الخمينية، ولكنها الأزمة التي ترضي الطرفين، ويجد كل واحد منهما نفسه كاسبًا في موقعه، وفقًا لحساباته الخاصة، وبالتالي يصبح من مصلحته أن تبقى هذه الأزمة وتستمر، وأن يبقى الشريك في هذه الأزمة صالحًا أيضًا، بالقدر الكافي لهذه العداوة الشراكية والرابحة لطرفيها.

بالنسبة إلى أميركا خصوصًا، وللغرب عمومًا، هناك دومًا حاجة إلى وجود الأعداء، بقدر الحاجة إلى وجود الأصدقاء، وهذه كلها عداوات وصداقات مصالح محسوبة بذكاء ودقة، الأمر الذي يعني أنه كما يجب أن يبقى الصديق صديقًا بحجم القوة المناسب للصداقة، بحيث لا تتخطاه زيادةٌ أو نقصان، فيخلّ بمعايير وصفات “شراكة الصداقة” المطلوبة للمصلحة، كذلك هي الحال مع العدو الذي يجب أن يُحدد له حجم القوة المطلوبة، ليلعب دور العدو بنجاح، فلا يزداد قوة، ولا يضعف، فيخلّ بمعايير “شراكة العداوة”، المطلوبة أيضًا للمصلحة، وهذا ما ينطبق على الموقف الأميركي من إيران!

إن من السذاجة أن يعتقد البعض بوجود اتفاق صداقة سرّي بين أميركا وإيران، على تقاسم النفوذ في المنطقة العربية، فهما ليستا بحاجة إلى مثل هذا الاتفاق، أي ليستا بحاجة إلى صداقة سرية، أو عداوة مصيرية، والاعتقاد بوجود مثل هذه العداوة هو سذاجة أيضًا، مثل سابقتها؛ فإيران، فعليًا، خصمٌ لأميركا على المستوى الإقليمي، وهذا ما تريده أميركا تمامًا، ويخدمها فعليًا، ويخدم إيران بدورها، ولكن الخلاف بين أميركا وإيران هو على حجم القوة والدور المسموح بهما لإيران في هذه اللعبة.

فما هي الفائدة التي تجنيها أميركا من هذه العداوة؟!

النظام الرأسمالي الغربي، المأزوم بطبيعته داخليًا، هو دومًا بحاجة إلى وجود عدوّ خارجي خطير، يحوّل أنظار شعوبه ويركزها عليه، بدلًا من أن تتركز هذه الأنظار على الأزمة الداخلية، وتتطور إلى مفاعيل يمكنها بدورها أن تفرض تغييرات ضد مصلحة الطبقة المتحكمة في الغرب، وهذا العدو لا بدّ له من أن يكون له وجود فعلي ظاهرٌ على الأرض، لكي يقوم الإعلام الغربي لاحقًا بتضخيم هذا الوجود ومفاعيله والعلاقة الجارية معه، وفق ما يقتضي الأمر.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وجد الغرب في الاتحاد السوفييتي العدوّ الحقيقي المناسب لتخويف شعوبه، وقد أفلحت القوى الرأسمالية الغربية، الخائفة فعليًا من التهديد الشيوعي، في نقل هذا الخوف إلى شعوبها، عبر تصوير العداء بينها وبين الاتحاد السوفييتي كعداء قومي بين أمم مختلفة، وكعداء بين نظام ديكتاتوري هو الشيوعية، ونظام حرّ هو الليبرالية الرأسمالية، وبذلك درأت تلك القوى خطرَ هذه الشعوب عليها، وأبقت الخطر السوفييتي خارجيًا.

لكن بسقوط الخصم السوفييتي أحرز الغرب انتصارًا، ومُني بخسارة في الوقت نفسه، لأنه وإن أزاح عدوًا لدودًا من الساحة الخارجية، لكنه بالمقابل لم يعد لديه “بعبع” عالمي لتخويف شعوبه في الداخل، وهذا يعني تجدّد خطر هذه الشعوب من حيث المبدأ، وإن كان هذا الخطر ما يزال بعيدًا عن أي تهديدٍ واقعي، فالرأسمالية الخبيثة، بالطبع لن تنتظر اللحظة التي يصبح فيها خطر شعوب بلدانها تهديدًا حقيقيًا لها، وستعمل على قطع الطريق على هذا التهديد بأسرع ما يمكن.

وهكذا تم استبدال الخطر السوفييتي بخطر الإرهاب، وفي طليعته الإرهاب التكفيري الإسلامي، بالإضافة إلى خطر “الدول المارقة” ولا سيّما كوريا الشمالية وإيران، وهذه كانت أوراقًا جاهزة ومستغَّلة من قِبل الرأسمالية خلال الحرب الباردة، وإن كانت من الدرجة الثانية، مقارنةً بالورقة المرتبطة بالخطر السوفيتي.

هؤلاء الأعداء ضروريّون لإبقاء حالة الشعور بالخطر الخارجي سائدة لدى الشعوب الغربية، ولإشعارها بأن حكوماتها تحميها، بوجوب التعاون مع هذه الحكومات والتركيز على مواجهة الأخطار الخارجية معها، وعلى سبيل المثال، استمرت مسرحية الحرب المعلنة على القاعدة قرابة عقدٍ من الزمن، لتختتم بمشهد قتلِ أسامة بن لادن، وخلال وقت قياسي تم استبدال القاعدة ببديل أشرس، هو داعش، ونجحت الحرب الإعلامية الأميركية بجعل أكثرية الأميركيين يعتقدون أن داعش هي التهديد الأكبر للأمن العالمي، وفقًا لاستطلاعات الرأي.

ويمكننا أن نجزم بالقول: إن كوريا الشمالية وإيران ضروريتان لإشعار المواطن الأميركي بوجود تهديد خارجي له، وإن لم يكن على أمنه، فعلى الأقل على مصلحته.

لكن هذا ليس المكسب الوحيد الذي تكسبه أميركا من وجود العدو الإيراني، فوجوده في إطار محدد من القوة والنشاط، هو ضرورة لا بديل لها لاستمرار تخويف الدول الخليجية منه، ولابتزاز هذه الدول إلى أقصى حدٍّ ممكن، بذريعة حمايتها منه، وهذا ما حدث مثلًا في الصفقات التي تمت بين أميركا والسعودية، بعد زيارة ترامب إليها في أيار عام2017، وتجاوزت قيمتها 400 مليار، دولار، بينها صفقة دفاعية تبلغ قيمتها 110مليارات دولار،

إضافة إلى ذلك، ثمة فائدة ثالثة تجنيها أميركا لربيبتها “إسرائيل” هذه المرة، من وجود “نظام الملالي الشيعي” في إيران،  والمناسب تمامًا لتسويقه كمدٍّ أو خطر شيعي موجّه ضد “الأغلبية السنية العربية”، ولإثارة صراع ديني، سني شيعي، في المنطقة، يحل تمامًا محل الصراع العربي الإسرائيلي، ولهذه الغاية يجب أن تبقى إيران قويةً بما يكفي، وأن تُدفع وتُمكّن بما يكفي للتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان العربية، وإقامة التحالفات الطائفية فيها، ليشعر “السنة” بالخطر والتهديد ويبادروا بالرد، وينخرطوا بالتالي في الفتنة الدينية المطلوبة،

هذا كله ستخسره أميركا لو خسرت عدوها الإيراني، ولذا فهي لن تخسره، أما التصعيد في الحرب الاقتصادية والإعلامية، والتلويح بالعمل العسكري ضده، فهذا كله من ضرورات اللعبة، على الصعيد الواقعي وعلى الصعيد التمثيلي، فعلى الصعيد الواقعي، هذا ضروري لإبقاء “الشريك الإيراني” في لعبة العداء في حجم القوة المسموح له به، وهو ضروري على الصعيد التمثيلي لإقناع كل من تحتاج أميركا إقناعهم بأنها تتصدى لإيران وتواجه إيران

عدا عن ذلك فإيران نفسها دولة مغرية وواعدة للغرب، فبالإضافة إلى ثرواتها الطبيعية وموقعها الجغرافي، فهي دولة تتقدم علميًا وصناعيًا، وهي مرشحةٌ لشراكة اقتصادية حقيقية مع الغرب، وهي ستكون شراكة مفيدة له، وهذا سبب هام أيضا لعدم توجيه أي ضربة حقيقية مؤذية لإيران، ولإبقاء السياسة المستخدمة مع إيران سياسة احتواء وليس نزاع.

أما بالنسبة إلى إيران ونظامها الديني الاستبدادي، فلعبة العداء لأميركا “الشيطان الأكبر” أيضًا مطلوبة، وفيها يجد هذا النظام غطاءًا لاستبداده وذريعة لاستمراره، بحيث يصور الموقفَ الأميركي بأنه عدوان على الإسلام وعلى الشعب الإيراني، ويظهر النظام الإيراني بمظهر المدافع عن الإسلام وعن الشعب، وتظهر معركة الدفاع هذه كأنها الاستحقاق الأكبر والأهم الذي يجب أن تتركز عليه كل الأنظار والجهود، ويصبح أي استحقاق آخر ثانويًا بالمقارنة معه، ويصبح أي خصم سياسي داخلي للنظام الإيراني عدوًا لمن يدافع عن الدين والوطن، وبالتالي يكون كافرًا وخائنًا.

هذه اللعبة يلعبها كلّ نظام ديكتاتوري، وهي ما زالت تُلعب، بالإضافة إلى إيران، في كوريا الشمالية وسورية، حتى في فنزويلا بنظامها الفاسد، حتى وإن لم يكن ديكتاتوريًا بقدر من سبق ذكرهم، وهذه اللعبة قد لُعبت سابقًا أيضًا من قبلُ في عراق صدام حسين، وليبيا القذافي، وغيرهما.

من يتوقع حربًا حقيقية بين أميركا وإيران هو واهمٌ تمامًا، فكلا الطرفين يعي بدقة ما هي الخطوط التي يجب عدم تجاوزها لاستمرار مواجهتهما المفيدة لكليهما في لعبة “العدو الشريك” المتفق عليها ضمنيًا.

وإن من المضحك والمؤسف في وقت واحد أن نجد، على المستوى العربي، كثيرًا من أصدقاء أو أعداء أميركا وإيران يصدّقون أن مواجهة حقيقية ستقع، وأن ضربة قاضية ستصيب إيران، أو بطولة إيرانية تلحق العار بأميركا ستحدث، فلا مواجهات ولا ضربات قاضية ولا بطولات ستجري، وليس هناك أي شيء من هذا القبيل، إلا على الساحة الإعلامية، ولن تكون حملة ترامب هذه أكثر من حلقة، يغلب عليها الاستعراض، في مسلسل المواجهة المستمر مع إيران، والواضح أنها ستستمر!

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق