في ساحة قرية نائية، مهملة، يشاهد مُعلّمٌ في مدرسة مجموعةً من تلاميذه حُفاة ونصف عُراة، يتراكضون ويتزاحمون ويتنازعون للوصول إلى كُرةٍ كانوا قد جمعوا خِرَقها البالية، وكوَّروها، وأحكموا رباطها، وراحوا يسعون خلفها، صائحين صارخين، وقد اكتست وجوههم بالبهجة العارمة.
يستاء المُعلّم -في قصّة الكاتب السوري محمود عبد الواحد- من المشهد “الهمجيّ المُتخلّف لتلاميذه، فيُحضر لهم ما يُدهشهم: كرة قدم جلديّة حقيقية، ملساء، لامعة، تتقافز من لمسة؛ مما أطار عقولهم، وبثَّ فيهم البهجة. فيقول لهم، بعد طلبه منهم رميَ كرتهم القماشيّة في المزبلة: “لاحظتُ أنكم تلعبون بشكل همجيّ للغاية، وتركضون وتعوون مثل الكلاب الضَّالة. الرياضة، يا أبنائي، عِلم وحضارة ولها أصولها وقوانينُها، وسأحاول أن أفيدكم بما أعرفه في هذا المجال”.
وعندما حاول تدريبهم على اللعبة “وفق الأصول والقوانين” المعروفة لها، راحت تتسلَّل إليهم الخيبة أوّلًا، ثم استولى الضجر عليهم، لينتهوا إلى الاستياء الكامل والنفور الصريح من اللعبة وقوانينها الكثيرة وتوقّفاتها المتكررة المُميتة لبهجتهم وحماستهم؛ إلى أنْ وجدوا أنفسهم يعودون إلى اللعب بكرة قماشيّة ملفوفة من خِرق بالية، وإلى ركضهم وتزاحمهم الطَّليقين و”عوائهم مثل الكلاب الضالّة” -على حدّ تعبير معلّمهم- بعيدًا عن جدران المدرسة الضيّقة، وقوانين الرياضة الخانقة، وشروح معلّمهم ثقيلة الدم!
ورغم النيَّة الطيبة للمُعلّم المتنوّر، في تلك القرية النائية المنسيّة، في إكساب تلاميذه “الهُمْج” معلومات جديدة و”قيمة حضاريّة” للّعب، فإنّه، من حيث لا يدري ربّما، أفقدهم تلك اللذة الساحرة والبهجة الحيَّة والركض الطليق وحتى “العواء الحرّ”، كما أحبوا دائمًا أنْ يلعبوا.
ستتقاطع قصّة محمود عبد الواحد هذه، مع سيرة رجلٍ (قُيّض لي أنْ أعرفه عن قُرب) قضى الردح الأكبر من عمره غارقًا في دُكَّانٍ صغيرة، مُهلهلة، جَمَعَ فيها ما هبَّ ودبَّ من بضائع وحاجات لا رابط بينها، مُراكمًا بعضَها فوق بعضِها الآخر على نحوٍ “سُرياليّ” غرائبيّ، لا ترتيب له ولا نسق؛ بحيث كان يصعب على الشاري أنْ يُميّزه من بضاعته، لولا صوته المتهدّج الخشن، وحركة بدنه النشيطة رغم عمره المُتقدّم.
وما كان يُثير الدهشة والعجب ليس كثرة زبائنه وطلباتهم، بل مُسارعته في مدّ يده أو عصاه ليطال الغرض المطلوب، بلمح البصر، من بين فوضى الأغراض المُتراكبة التي تُعجِز الخيالَ عن تصوُّرها، ونادرًا ما كان يُخطئ في تناول المطلوب من قلب الكومة ونَفْض الغُبار عنه وتقديمه، مشفوعًا بابتسامة نصرٍ مؤزَّر تعلو وجهه مع غمزة تقول: “أرأيتم شطارتي؟”.
ذات يومٍ، رأى أبناؤه أن حال أبيهم ووضع دُكّانه على الشكل الراهن بات مُشينًا بحقّ فتوّتهم وسُمعتهم؛ فاجتمعوا به وعرضوا عليه فكرة تغيير الوضع القائم. وكما يحدث في الغالب، رفض الأب العجوز رفضًا قاطعًا، غير أن الأبناء الشباب أصرّوا عليه، ثمَّ ضغطوا وتشدَّدوا إلى أن غُلِب على أمره.
تمَّ إنشاء “ميني ماركت” مُلوَّنة، زاهية، حسنة الإضاءة مكان الدكان، وداوم الأب فيها فترة قصيرة، غير أنه سرعان ما ملَّ، وراح يتغيَّب عنها بحجج شتى، إلى أن فَقَدَ شهيَّتَه التي كانت له في البيع والشراء، فعاف الدُّكّان لأبنائه، واتَّخذ من المصطبة قرب باب داره مطرحًا يجلس فيه، رادًّا التحيَّات لجيرانه وزبائن دُكَانه القدامى، من دون أيّ عمل سوى أن يُدرج لُفافات سجائره، ويُدرج معها أيّامه الباقيات، إلى أن رحل.
ولعلّي لا أنسى كيف بقيت حكايات ذلك العجوز تدور على ألسن أهل البلدة، مدة طويلة بعد رحيله، وكيف ظلَّ استغرابهم حيًّا من الخليط العجائبيّ لمحتويات دُكَّانه، ومن قدرته على تمييز مطارحها رغم فوضاها.. إلى أن حلَّ ذلك اليوم الذي رحلتْ فيه تلك الحكايات أيضًا.