تمنيت لو أن مسلسل (دقيقة صمت) استطاع أن يكون جريئًا فعلًا، لتوعية وتوحيد شعب، لم يعد يجمعه سوى البؤس، بعد أن انقسم في لحظة الحقيقة. كان مشروع سامر رضوان، الذي بدأ بمسلسل (لعنة الطين) عام 2010 ثم (الولادة من الخاصرة) الذي عرض في عام 2011 على ثلاثة أجزاء حتى عام 2013، واعدًا، وانتظرنا أن يتابع تصاعد جودته وتصعيد جرأته، لكن العمل الجديد أثبت بعد العرض أنه ينتمي إلى حقبة ما قبل الثورة من الدراما الناقدة. في متابعة ممجوجة لتحميل الصف الثاني والثالث من منظومة النظام مسؤولية الكوارث الأمنية والاجتماعية والاقتصادية في سورية.
لم أستغرب مطلقًا قيام الكاتب بتصريحات تؤكد موقفه السياسي المعادي للسلطة، في لقاء تلفزيوني، فهذا حق مكفول له، حين قال: “أتمنى أن يُقرأ هذ العمل انطلاقًا من الصراع الشخصي مع سلطة مارست كل أنواع التنكيل مع السوريين”، وأن العمل “صرخة احتجاج في وجه السلطة.. التي لا تستحق هذا الشارع”. وأنه “ملك للسوريين بالشارع الموالي والمعارض”.
لكني استغربت كيف يمكن للصراع العام الذي يتبناه الكاتب شخصيًا أن يتقلص ليتحول إلى حكاية ملفقة عن (سجينين محكومين بالإعدام لارتكابهما جرائم، ويتم تهريبهما من السجن بتخطيط من مجموعة من المسؤولين لسبب غامض، وإعدام سجينين آخرين مكانهما، على أن يقتلا لاحقًا خارج السجن). الهدف من العمل ككل تحميل شلة من أصحاب المناصب الفاسدين المسؤولية عن هذه الجريمة، حيث لم يأت رضوان بجديد في الحكاية، فقد أصبح كل الناس يعرفون من هي الطغمة الحاكمة الفاسدة في سورية، وماذا بإمكانها أن تفعل في الشعب والبلد.
ولم يكن مستغربًا الهجوم الذي شنته وزارة الإعلام السورية على العمل في بيان، بعد تصريحات سامر رضوان، بل كان البيان متوقعًا ومثيرًا للسخرية ولا يستحق الفصفصة. ولا أدهشني الهجوم اللاذع الذي قوبل العمل به من الأقلام المؤيدة للنظام، فقد بدا كل ذلك الهجوم تتمة للمهمة المسعورة والمستمرة في استهداف كل ما يوحي بأنه صراع مع السلطة أو نقد عميق لها. لكن العمل لم يكن كذلك، ولا الجهتين المنتجتين (صباح أخوان) وإيبلا.
ما كان مذهلًا ومثيرًا للدهشة هو قبول شريحة من الجمهور التي أعجبت بالعمل، لما احتواه من أقل القليل، من الخطاب الموارب والحكاية الملفقة عن فساد السلطة، والذي كان يصلح قبل عشر سنوات للتنفيس عن احتقان شارع صامت.
رأس السلطة بريئًا
العمل يتحدث عن ما قبل الثورة، وهي منطقة ظنها سامر رضوان آمنةً، توفر الحد الأدنى من المناورة، مركزًا على فساد الطبقة السياسة والأمنية التي تبدو ألعابها دومًا بعيدة عن رأس الطبقة السياسية وحاكمها، فبدا العمل وكأنه لحظة استيقاظ كم لبثنا. فركز على الطبقة المنتقَدة أصلًا منذ ما قبل الثورة، والتي اكتشف الجمهور لاحقًا عدم جدوى هذا النقد، والخديعة الكبيرة التي انطلت على الناس باعتقادهم أن هذه الأعمال يمكن أن تصنع فارقًا. إلا أن ثماني سنوات كانت كفيلة لتثبت أن الفاسد أصبح أشد فسادًا، والمجرم أصبح أكثر وقاحة في إعلان إجرامه.
بدا العمل وكأنه إعادة ضخ الأكسجين في رئتي كذبة أن السيد الرئيس وفريقه الخاص هم الإصلاحيون، وسيكافحون هؤلاء الرعناء الذين يشكلون “حالات فردية”. كذبة دُفع ثمنُ دحضها أطنانًا من الدماء، ليصبح علينا المشاركة في همروجة التهليل لما يؤسس من جديد لتكريس شائعة أن الصراع فقط هو صراع مع رموز الفساد في السلطة، وأن فضحهم فعلٌ بطولي؛ حتى إن بعض المتابعين صرح بأن المسلسل يشبه نكتة “مطالبة الناس بإقالة محافظ حمص”.
والأنكى، حشد سامر قدراته الدرامية ليملأ الحلقات بصراع بين مدير الناحية، الذي قام بطل العمل بقتل ولديه، نعم قتلهم بدم بارد، وبين مجتمع محلي يريد أن يبني مزارًا لقاتل، فأصبحت السلطة بمثابة العقلانية الواضحة، والمجتمع هو المتخلف الغيبي المليء بالخزعبلات، وعلى المشاهد أن يتواطأ ضد عقله لقبول حبكة إعادة الميت للحياة بتخريجة تلفيقية مبسترة.
عمل سياحي:
العمل أقلّ مستوى، نصًا وتمثيلًا وإخراجًا، مما كان يعرض قبل الـ 2011، وكأن الثورة لم تحدث. ضعف درامي بالحبكة، سجن لا يشبه سجون البلد ومساجين وضباط وبيئة تعامل معها صناع العمل، وكأنهم لا يعرفونها ولا تعرفهم. ربما هو الإخراج السياحي لـ شوقي الماجري الذي قدّم لنا سجنًا مزيفًا وتمردًا مزيفًا، في مدينة مزيفة، في قرية مزيفة وشخصيات مزيفة.
إن دقيقة صمت أشبه بسندويشة باردة و “بايتة” ينصح باستهلاكها قبل 2011 قدمت لنا على مائدة رمضان التلفزيونية. وما يزال صنّاع العمل يصدقون ويقنعون أنفسهم وشريحة كبيرة موافقة ومصادقة ومرتاحة إلى أنه يلعبون دورًا في فضح.. المفضوح.
جوقة التشويش الدرامي:
ينتمي مسلسل (دقيقة صمت) إلى جوقة التشويش الدارمي التي تهرب مما حدث ويحدث اليوم في سورية إلى ما قبله، علّها تستثمر بمكان ما في المنطقة المحايدة الرمادية الصامتة الخائفة المحتارة الأكثر خطورة من كل مناطق الصراع في البلد.. ولهذا تلجأ هذه الأسرة إلى صناعة قالب يستوعب الأفكار السابقة.
يتربع النظام السوري على عرش جوقة التشويش بأجهزة مخابراته المتمرسة في تأليف السيناريوهات، للتعمية على كل شيء! أول تظاهرة في الثورة السورية وحتى طوابير المازوت والبنزين مرورًا بترهيب الناس الموجودين في سورية من نقد أي سوء في السلطة، حتى لو ببوست على (فيسبوك)، تحت طائلة التخوين والاعتقال.
وعلى الرقعة نفسها في الصف الأول، وسائل الإعلام العربية التي ضيقت -منذ بداية الثورة- على إنتاج أو عرض أي عمل عن الثورة السورية. ثم تأتي بعدها في المرتبة شركات الإنتاج التي يديرها أعوان النظام من أصحاب رؤوس الأموال، والتي كانت ترفض صراحة أي عمل عن الثورة السورية أو عن حقيقة ما حدث، وتطالب الكتاب بأعمال بعيدة عن السياسة والثورة! أما البيادق والجنود على رقعة التشويش، فهم صناع تلك الأعمال الدرامية من كتاب وممثلين ومخرجين.. والذين قبل العديد منهم بإعلان مواقف لا أخلاقية في مقابل الحفاظ على نجوميته، وبعضهم صمد عدة سنوات، وامتنع عن المشاركة أو شارك في أعمال دون المستوى، لمجرد العمل والحفاظ على لقمة العيش، ثم بدؤوا يتساقطون، بعضهم بسبب الحاجة والبعض الآخر بسبب استقطابهم إلى حضن الوطن، مع وعود بالسماح لهم بالعمل في مقابل إعلان مواقف مغايرة لمواقفهم المناهضة للنظام، وهو ذاته ما حدث مع لاعبي كرة القدم السوريين المعارضين الذين انهارت معارضتهم أمام بريق وإغراء الحلم بمشاركة المنتخب في كأس العالم روسيا 2018.
هناك عملية تدمير منظم، لكل ما يمكن أن يصنع للسوريين قيمة جمعية مشتركة؛ ما لم يخرج من تحت عباءة النظام وبمباركته لهم ومباركتهم له. وهذه المرة وبسلاح الدراما الرديئة، بإضافة البهارات اللبنانية إلى تلطيف الطعم المحروق لأي طبخة تلفيقية عن الحقيقة، مثل تركيب حكاية البنت اللبنانية (مزورة الجوازات) التي تعيش مع زوج أمها السوري! أو الشب اللبناني زوج أخت البطل في الضيعة، أو السجين اللبناني المثقف، وكان أفضلهم أداء للدور، وأخيرًا شخصية اللبناني الأزعر “الجنوبي” الذي يقف موقفًا مواليًا وداعمًا للبطل المجرم المحبوب. يبدو أنه لا بد من مكافأة النأي بالنفس اللبناني، ومشاركة “حزب الله” الجنوبي اللبناني، في الحرب على الشعب السوري والممارسات العنصرية اللاإنسانية ضد كل من هرب من السوريين أثناء الحرب إلى لبنان والمطالبة بترحيلهم، ببعض الاستثمارات المربحة، التي كانت الدراما وسيلتها لتضرب كل العصافير بحجر.
لقد خرجت الأعمال الدرامية كثمرة لما يريد بعض الواهمين تسميته “إيجاد قواسم عيش مشترك جديدة”. في محاولة بعض العاملين في مجال الدراما تقليص حجم تضررهم، بخسارة امتيازاتهم الثقافية والجماهيرية في الوسط بين الشارع الثائر الأكثر جرأة، الذي تجاوزهم منذ الشهور الأولى وأربكهم، والشارع الموالي الذي لفظهم ونزل بهم تجريحًا لإخافتهم وإعادتهم إلى حظيرة النظام.
(دقيقة صمت) لقمة كبيرة غصّصت كل من حاول ابتلاعها:
أراد الكاتب اختيار موضوع لا خلاف عليه، موضوع قديم يحقق له معادلة إمساك العصا الجماهيرية من المنتصف، وجمع الناس -بنية حسنة- لخلق حالة توافقية في زمن الانقسام والاستقطاب الحاد، فما الذي حدث؟
في البدء، صنع تشويقًا بوليسيًا سريعًا في الحلقتين الأولى والثانية، وهو ما شكل سر الإقبال على العمل. لكنه تشويق اضطر المشاهد أمامه إلى التواطؤ على كل منطق يعرفه في الواقع والحقيقة لتمريره، ثم لنتابع بعدها واحدة من أسوأ الحبكات الحكائية المصنوعة باستهتار كامل بالمتلقي السوري! على الأقل يبدو أن الدراما التي تحيي وتميت ليست فانتازيا صراع العروش فقط ولا دراما البيئة، بالمعنى السيئ، مثل باب الحارة؛ بل أيضًا مسلسلًا كان الأمل معقودًا عليه مثل (دقيقة صمت).
تهاوت الآمال في صناعة جسر عبور شخصي للوصول إلى ما يسمى البيئة الحاضنة للنظام، هذه البيئة ذاتها التي رددت طوال سنوات كميات مخيفة من التلفيق والتدجيل والتكذيب والطعن والافتراء والتخوين والتبرير، والذي تمنى صناع العمل أن تتلقف بلهفة هذا النوع من الهراء الدرامي. فلا اقتنعوا ولا اقتنعنا.
حقائق:
علينا ألا ننكر فضل هذا العمل وقدرته الكبيرة على كشف وقائع غير معلنة سابقًا، كتحول مدرس مادة تمثيل من النخب الأول مثل فايز قزق إلى كمبارس يتفوق عليه محسن غازي بالصدق الفني. أو قدرة ممثل مؤطر بنوعية معينة من الأدوار مثل فادي صبيح أن يخلق مساحة إبداع كبيرة من دور صغير. والأهم كيف للممثل التائب العائد إلى حضن الوطن إياد أبو الشامات أن يقبل الظهور بهذا المستوى الرديء، وهو الممثل والكاتب الذي كان يحمل همًّا واعدًا.
إنه زمن التوبة وإعلان البراءة على خجل، والقبول بالمشاركة في مسخ درامي.