سلايدرقضايا المجتمع

الدولة والعشيرة والمنطقة الشرقية

لم يكن حدثًا عاديًا أن يخرج رئيس الدولة، نور الدين الأتاسي، في بث إذاعي، يطلب فيه من أجهزته الأمنية أن تضرب بيد من حديد أفراد عشيرة معينة في منطقة الفرات، وتستولي على أموالهم المنقولة وغير المنقولة.

حدث هذا في صيف عام 1966، بعد أيام من شجار شخصي أدى إلى حادثة قتل، كان من الممكن أن تمرّ ككل حوادث القتل في العالم، غير أن الجاني، بحكم المصادفة، كان ينتمي إلى عشيرة تحوز الكثير من الأراضي، في حين أن “المغدورِين” ،بحكم الصدفة أيضًا، كانوا فلاحين، هذه هي حادثة قرية (الشجرة) في ريف حلب الشرقي، التي ستشكل معلمًا أساسيًا في طريقة تعامل البعث مع العشيرة.

والحديث عن العلاقة بين الدولة والعشيرة في سورية حديث شائك، فأبناء العشائر في سورية كانوا أكثر الفئات الاجتماعية تضررًا بعد انهيار الدولة العثمانية، وقيام الدولة الحديثة، على خلاف بقية البلدان في المشرق العربي؛ ففي العراق، مثلًا، بقيت العشيرة كيانًا يحظى بالتقدير، حتى أثناء حكم البعث، الذي ترك للعشائر استقلالًا نسبيًا، بغية مواجهة النفوذ الإيراني، فضلًا عن أن عشائر العرب السنة في العراق كانت هي الأساس في قيام العراق الحديث، وفي بقية الدول العربية في المشرق ظلّ للعشيرة حضور بارز في الحياة السياسية. الأمر مختلف في سورية، فقد قامت الدولة الحديثة على أيدي البرجوازية المدنية، ثم آلت السلطة إلى الأقليات الدينية مع مجيء البعث، ولهذا انزوت العشائر إلى هامش الحياة السياسية، لانخفاض مستوى التعليم بين أفرادها في البداية، ولأسباب أخرى تتجلى في نظرة سكان المدن الاستعلائية نحوها، وتجلت هذه النظرة مع تشكل الدولة السورية، فقد قُسّمت المناطق الريفية إلى ثلاثة أقسام (حضرية، ونصف حضرية، وبدوية)، والقسم الأخير خُصّصت له مقاعد في المجلس النيابي خاصة بالعشائر، في حين سيطرت القيادات العشائرية على المقاعد في الدوائر “نصف الحضرية”، وفق اتفاق محاصصة غير معلن، ثم أُلغي هذا التقسيم في مرحلة لاحقة،

لكن الإنصاف يقتضي منا النظر بكثير من التقدير إلى المدة السابقة لمجيء البعث، فعلى الرغم من كل المآخذ التي يمكن أن تُوجه إليها، فإن القائمين على الحياة السياسية أرادوا تمثيلًا حقيقيًا للعشائر، ولم يكن من الممكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال انتخاب زعامات عشائرية، كان حضورها في البرلمان رغبة أكيدة من قبل الدولة الناشئة، في تركيز الحياة السياسية ضمن الفئات النافذة في مجتمعاتها المحلية، وهو نزوع يتّسق مع النمط السياسي السائد في تلك المرحلة، ومع محاولة خلق مراكز قوى تسهم في الحفاظ على وحدة الدولة التي رسمت بمسطرة المستعمر.

لا أحد يجادل في أن العشيرة بنية اجتماعية متخلفة، غير أن الخطأ الكبير الذي وقعت فيه النسخة “الماوية” من البعث، هو تطرفها في “ثورتها الثقافية”، فقد شرع البعث في عملية تدمير النظام العشائري؛ لأنه يقف في تعارض مع “الدولة” التي أراد إنشاءها؛ ففي سنوات البعث الأولى، حُوربت العشائر بلا هوادة، واضطر بعض قادتها إلى الهرب إلى السعودية التي كانت توفر ملاذًا آمنًا للكثير منهم، لكنّ الأمر يتعدى هذا السبب البسيط، فالعشيرة بناء تنظيمي، من الممكن أن يشكل بقاء كيانها متماسكًا خطرًا على بنية النظام الذي كان في طريقه إلى التشكل، يعزز هذا أن النظام أبقى على العشائر لدى الطوائف الإسلامية الأخرى، ولم يحاربها،

في تلك المرحلة، كانت السلطة البعثية تبحث عن أي حادثة، تستغلها في تأديب “الفئات الرجعية” التي تحاول النيل من “ثورة الثامن من آذار المباركة”، والتي من الممكن أن تقوم “بثورة مضادة” تعرقل طريق التقدم، الذي كان يمر من فوق جثة الإقطاع والبرجوازية والأرستقراطية، مثلما كان طريق القدس، يومها، يمر من “عمان”،

ولذلك سادت حالة من الارتياح في الأوساط العشائرية، مع مجيء الأسدية التي عرفت كيف تستميل العشائر لصالحها، وبخاصة بعد القمع الذي تعرّض له زعماؤها في المرحلة السابقة.

مهما كان موقفنا من “ماوية” الرفاق البعثيين، فإن الأسدية تقف على النقيض من طموحهم في تشكيل دولة على النمط الصيني، الأسدية ليس لديها طموح في بناء دولة، فهي أقرب إلى العشائر من ناحية اعتمادها على العصبة ورابطة الدم، ولعلّ هذا ما يفسر سرّ التقارب بين الأسدية والعشائر التي حظيت بممثلين شرفيين في “مجلس الشعب”، كان ذياب الماشي الواجهة السياسية لها طيلة أربعة عقود تقريبًا، مع التذكير في هذا الصدد بأن الأسدية اعتمدت -كما هو حالها مع كل الفئات- على المنتفعين والانتهازيين، وأغفلت وجوهًا لها تاريخ وطني لا يمكن أن يساير الأسدية في كل ما قامت به.

اختفاء دور العشيرة السياسي لم يعقبه قيام تنظيمات اجتماعية وسياسية تملأ حالة الفراغ؛ فالأحزاب في سورية كانت عبارة عن قشرة رقيقة، ظلّت تعيش على سطح المجتمع، وولّد هذا في نظرنا حالة ضعف على مستوى المشاركة السياسية في الحكم، فشيخ العشيرة الذي أُنيطت به مهمة تمثيلها سياسيًا، في مرحلة ما قبل البعث، جُرّد من الميزات التي كان يتمتع بها، وبقي دوره “شرفيًا” في الحقبة الأسدية، ولهذا خلت المنطقة الشرقية في سورية من أي تنظيم سياسي، أو وجوه تملأ الفراغ، كما ظلّت ضعيفة من ناحية التمثيل السياسي في الحياة السياسية؛ فالناظر في تشكيلات الوزارات السورية المتعاقبة سيجد أنها المنطقة الأفقر من حيث التمثيل الجغرافي، في أغلب التشكيلات الوزارية، مثلما كان حضورها معدومًا في السلك الدبلوماسي، والمؤسسات التي كان التوظيف فيها يخضع إلى المحسوبيات والولاءات الطائفية والمناطقية.

يعود هذا الضعف إلى الفطرة السليمة التي استمدها أبناء الفرات والجزيرة من الحياة الريفية والبدوية التي لم تتأثر كثيرًا بتعقيدات الحياة الحديثة، وبخاصة في غياب العلاقات التجارية والإنتاج الصناعي، ومن سمات الفطرة السليمة التسامح مع الآخر، أيًا كانت معتقداته، من خلال البحث عن العوامل المشتركة بعيدًا عن لغة الاختلاف والتنافر.

هذا الفراغ السياسي الناتج عن غياب التنظيمات، والحد الأدنى من المؤسسات الحكومية، التي تُعدّ المنطقة الشرقية أفقر منطقة بها، أدى إلى تنامي كره مبطّن لكل ما هو سلطوي، ولكل ما يمثل الدولة التي نُظر إليها بوصفها “الآخر”، أي: “العلوي” القادم من الساحل، أو “الحضري” القادم من مدن البرجوازية السنّية، وقبيل الثورة السورية، وصل النفور من الدولة إلى الذروة، مع موجة الجفاف الهائلة التي كان للمنطقة الشرقية النصيب الأوفى منه، بسبب غياب القطاعات التي تعوض نقص الإنتاج الزراعي.

أي حديث عن سورية القادمة، لا يلحظ إنصاف منطقة الفرات والجزيرة بمختلف أطياف سكانها، عربًا وكردًا، ستنتج عنه تبعات غير محمودة العواقب على الوحدة الوطنية، ولا سيّما في ظلّ إدراك أهل المنطقة للثروات التي تزخر بها، والنهب الذي تعرضت له منذ نشوء الاستقلال يترافق مع تصاعد دعوات من قبل بعض الفاعلين إلى ضرورة البحث عن شكل جديد للعلاقة مع المركز، ينصف سكان المنطقة، وبخاصة مع انبعاث سرديات المظلومية من قبل كل الأطراف.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق