اليوم كانت سعادتي فوق الوصف، لسبب بسيط هو أن زوجتي، على غير العادة، بادرت إلى زيارتي في المحل منذ الساعة التاسعة صباحًا، فتحَت الباب من دون إذن، ودون أن تخبرني أنها قادمة لتشرفني بزيارتها، على الرغم من أن التلفونات “متل الكشك” حتى ليظن بعض البشر أن البني آدم موظف عند هاتفه وليس العكس، ولو كنت أعلم، لزينت مدخل المحل بما يليق بزوجات الزعماء، وفرشت لها بساطًا نبيذي اللون. أسرعتُ بتحضير قهوة جديدة لمعرفتي المسبقة بقرف زوجتي من كل قديم، بما في ذلك تاريخنا الشخصي، فهي -كما يقال- تحب الشرب من رأس النبع، مثل معارضينا الأشاوس، وفيما أنا منهمك بتحضير ما يرضي زوجتي عني مساء، ولو لساعة من الزمن، دخل صديقي المهندس عليّ، الذي يعمل سائق تكسي، ويأتي لزيارتي كلما مرّ بالحي، فوجدتُ فيه منقذًا ونصيرًا ضد زوجتي المتسلطة.
شربنا القهوة الكولومبية الجديدة، ولم يفتني أن أضرب الاثنين منيّة، بأنني قدمت لهما قهوة طازجة، “وأهملت” عملي من أجل القيام بهذه الواجبات، مع أنني لا أعمل شيئًا إلا الكتابة ونقل البوستات وإعادة نشرها، ولا أتوقف عن “الفشخرة” وضرب العالم منيّة، بأنني أخدم الثورة والثوار، وأنا في الحقيقة أحاول أن أجد، من خلال ذلك النشاط، “البرواظ” المناسب لي، فلعل “صراخي” يصل إلى مسامع أحدهم، فيقترحني لمنصب ما، في مكتب من مكاتب الثورة، على الرغم من عدم حيازتي أي مؤهل، إلا أنه ليس في تاريخي ما يشير إلى عملي في مؤسسات النظام أو في إعلامه، وعندي نقطة إيجابية، وهي جنسيتي الغربية، التي تجعل “ثوار المكاتب” يرحبون بي على أمل أن أفتح لهم قناة مع مخابرات بلدي الغربي، فهم مقتنعون، لسبب ما، أن النصر، إذا حصل، سيكون بفعل فاعل خارجي ومفتاحه المخابرات والعملاء.
بعد كثير من النميمة، واحتجاجات عليّ، والقيل والقال، وحلْفي مئة يمين أن نميمتي عن المكاتب المعارضة حقيقية، وقد رواها لي أحد المثقفين الذي كان يعمل في مؤسسة كبيرة محسوبة على المعارضة، قرر صديقي علي المغادرة، فألححت عليه بالبقاء، ولكنه أصرّ إصرار الخائف من زوجته على الذهاب للجري وراء لقمة العيش، وقبل أن يغادر قلتُ له نادبًا: أين تذهب يا صديقي؟! الآن بعد خروجك بثوان سأبدأ الخناقة مع زوجتي!
ضحك علي قائلًا: ولا يهمّك أخي، “الحال من بعضو”، “بعدين إذا الواحد ما بدو يتخانق مع مرتو، شو بيسوي!! بيتخانق، مثلًا، مع أسماء الأخرس؟”.
قبل أن يخرج ويتركني وحيدًا لمواجهة قدري القاسي مع زوجتي الحبيبة جدًا، لم تغفر له زوجتي تلميحته ضد النساء، فبادرته بسؤال من “قفا الدست”: أستاذ علي، لماذا لا تعمل باختصاص الهندسة، الذي درسته سنوات، وصرف عليك “الأب القائد” الألوف كي تحصل على شهادتك، فتركت البلد وأتيت إلى كندا كي تعمل سائق تكسي؟!
وكان عليّ، وهو المعروف بطولة باله، قد وصل إلى الباب، فاستوقفه السؤال، وبخاصة رنّة السخرية فيه، وقرر الإجابة على التساؤل الذي يحاول النيل منه بشكل ما، وقال:
أولًا يا سيدتي، حافظ الأسد لم يصرف عليّ، بل سورية هي التي صرفت علي، أهلي ووطني هم من صرفوا، فقد رهنوا أراضيهم وباعوا بقرهم وحميرهم، كي يرسلوا لي أجرة الغرفة في دمشق، وعندما تخرجت، بحثت سنوات فلم أجد عملًا إلا الذي “تكرم” به حافظ الأسد، وهو لا يكفي لأجرة الغرفة التي كنت أسكنها، وكان نظام المقبور يدفعني دفعًا إلى العمل في جهاز المخابرات، أي أن أكون جاسوسًا على أبناء شعبي الطيبين، كي أزيد دخلي وأفكّ رهن أراضي أهلي، وعندما أعلنت كندا فتح باب الهجرة للمهندسين السوريين، كنت أحدهم، ولست نادمًا، فسائق التكسي هنا يعيش بمستوى “وزير شريف” في سورية الأسد. قد يكون لي عتب على كندا، لأن معلوماتها لم تكن دقيقة في ما يتعلق بشروط سوق العمل، والخبرة الكندية، ولكني بعد سنوات من إقامتي في مونتريال، فهمت لماذا تطلب كندا حملة شهادات عليا للهجرة إليها؛ إنها ترفع من سوية الحياة عندها، فعندما يكون السائق هنا يحمل شهادة طب أو هندسة أو محاماة، الشيء الطبيعي أن يكون تعامله مع الناس بمستوى شهادته، ويبقي باب معادلة شهادته مفتوحًا، ولكن عليه قطع طريق صعبة جدًا قبل الوصول إلى الهدف، لذلك يجد أن مهنة سائق التكسي تعيله وتعيل أولاده، وتجعلهم يعيشون في مستوى وزير سوري لا يسرق ولا يكون مخبرًا عند المخابرات.
صمتت زوجتي، حتى انقطع صوت تنفسها، أما أنا فقد شكرت صديقي على جوابه الذي أفحم زوجتي التي تهددني بالعودة إلى سورية، كلما طلبت منها طبخة ورق عنب!