محافظة الحسكة، بمدنها الرئيسية (الحسكة، القامشلي، الدرباسية ورأس العين) وغيرها، تعرضت لحرب اقتصادية شاملة، وبخاصة ضد المزارعين والفلاحين وملاكي الأراضي الزراعية، وقد مورست عليها -منذ تسعينيات القرن الماضي- سياسة الخناق الاقتصادي والتنشيف الاقتصادي للمصالح الاقتصادية وعائدات الزراعة، من قمح وشعير وقطن وخضروات متعددة كالطماطم والبطاطا والخيار.
بدأت حرب النظام ضد أبناء المحافظة، عندما تم تشجيع المزارعين على حفر آبار ارتوازية، من دون تقديم دعم من البنوك الحكومية؛ فتعرض المزارعون إلى أزمة اقتصادية كبيرة، ولاستنزاف القدرات الاقتصادية الهائلة، وقد كان بإمكان الدولة -مثل باقي الدول- منح قروض طويلة الأمد للمزارعين، لكن النظام السوري -عن سابق إصرار وتصميم- أفقر المزارعين، وبالتالي أفقر المحافظة بكاملها، وفشل أصحاب المشاريع الزراعية، وأغلقت الآبار الارتوازية من دون أي تنمية ريفية، وحدثت الهجرة الكبيرة إلى المدن، في ما يسميه علماء الاجتماع بـ “ترييف المدن”.
لم تتوقف حرب النظام السوري ضد المزارعين بالمحافظة، بل استمرت عبر رفع أسعار الوقود وبخاصة المازوت، وتوقف دعم المحاصيل الزراعية؛ فبيعت بأسعار بخسة، وأصيب المزارعون بخسائر كبيرة بخاصة في عام 2000 وما بعده، وتعرّض المزارعون وعوائلهم، وسكان الريف عمومًا، لأزمة اقتصادية خانقة من دون أن يكون هناك دعم أو مساندة من الحكومة السورية، فاضطروا إلى الهجرة إلى مدن الداخل مثل حلب وحمص ودمشق، وعمل أبناء العوائل الجزراوية في المعامل والمصانع والبناء في هذه المدن، حيث نصبَ كثير من العوائل والعشائر العربية خيمهم، لأنهم لم يتمكنوا من استئجار المساكن بسبب غلاء الإيجارات وعدم تناسبها مع وضعهم الاقتصادي المتدهور، وفي أحد أيام العقد الماضي، مرّت بعثة دولية بجانب الخيم المنصوبة برفقة أحد المسؤولين الحكوميين، وسألت عن هوية القاطنين في هذه الخيم، فأجاب المسؤول الحكومي إنهم “غجر”، وعندما سمع النازحون الجزراويون هذه الكلمة كانت ردة فعلهم غاضبة وقوية على المسؤول الحكومي، وكتبوا على خيمهم عبارة “نحن عشائر عربية ولسنا غجرًا”.
لم تتوقف حرب النظام ضد أبناء المحافظة، ولم تقتصر حربه على المزارعين، إذ أصدر في عام 2008 المرسوم المشؤوم رقم 49 القاضي بمنع تراخيص البناء في المدن من دون موافقات أمنية، أي ربط أي رخصة بناء بموافقة أمنية في دمشق، وفتح الباب أمام السمسرة والرشاوي والفساد، ونتيجة هذا القرار حدثت موجة أخرى من الهجرة من مدن محافظة الحسكة، إلى مدن الداخل ودول الجوار وأوروبا، كان هذا المرسوم بمثابة حرب شاملة على قطاع اقتصادي مهم جدًا، وهو القطاع العقاري، إذ تعطلت بسببه كثير من المهن والأعمال مثل أعمال التمديدات الصحية والكهربائية وأعمال الصب والدهان، وقطاع الهندسة بكافة فروعها، وقطاع النجارة والحدادة، والعاملين اليوميين، والعديد من المهن الأخرى.
لقد كانت الحرب الاقتصادية الكبرى التي قام بها النظام ضد الفلاحين والمزارعين وضد ريف الحسكة وباقي المحافظات السورية، أحد أسباب الثورة السورية في معظم المناطق السورية.
إذا اطّلعنا على تاريخ وتفاصيل الحرب الاقتصادية للنظام ضد الفلاحين والمزارعين في محافظة الحسكة؛ فلن نستغرب اليوم من الحرب الراهنة ضد المزارعين بحرق المحاصيل الزراعية وبخاصة القمح والشعير، فلا يكاد يمر يوم إلا نسمع عن حرق آلاف الهكتارات من المحاصيل الزراعية، في القامشلي والحسكة وغيرها من مدن المحافظة، ويرتكب النظام -عبر عملائه وأدواته المحليين- هذه الجرائم، ويحرق المحاصيل الزراعية، لأنه يشعر أن مردودات هذه المحاصيل قد خرجت، ولو قليلًا، عن قبضته الاقتصادية، وأنه لا يستفيد منها، وقد أعلن النظام جهارًا شعاره المشؤوم ضد الشعب السوري “الأسد أو نحرق البلد”، وها هو يحرق المحاصيل الزراعية في محافظة الحسكة استكمالًا لحربة السابقة ضد أبناء هذه المحافظة، واستكمالًا لحرق البلد، فبعد أن قتل أكثر من مليون مواطن سوري، وهجّر نصف سكان سورية، واعتقل مئات الآلاف؛ بدأ يحارب الشعبَ في قوته ورزقه وأحلامه وآماله، وهناك من يشير بأصابع الاتهام إلى (داعش)، ولا يُستبعد تورط هذا التنظيم في هذه الارتكابات، لكن اليد الطولى والفاعل الرئيس هو النظام، بدليل انتشار الحرائق في معظم محافظات القطر انتشارًا كبيرًا وهائلًا.