من البديهي أن يكون لأي تجمع بشري، من مستوى قبيلة إلى مستوى دولة، أمنه الخاص الذي يحمي مصالح المواطنين البينية، ويسهر على حراسة الدولة ومصالحها الخارجية والداخلية، ومن المعلوم أن أي خلل في مهام وواجبات هذه الأجهزة ستكون له نتائج كارثية؛ إذا تقلصت إلى حد تصبح فيه الأمور سائبة، أو تمددت لتصبح الدولة رهينة لهذه الأجهزة.
أعود في الذاكرة إلى ما رواه لي بعض الأصدقاء، حول فترة بداية استلام البعث للسلطة واستبدال (المكتب الثاني) بأجهزة أمنية متعددة الاختصاصات والأهداف.
في الفترة بين 1963 و1972 كان محظورًا على أعضاء الحزب التعامل مع رجال الأمن، أو تزويدهم بأي معلومة تخص التنظيم السياسي للحزب وما يدور في الاجتماعات، وفي حال ضبط أي حالة كان العضو يُفصل من الحزب، وكان الأمن في خدمة الحزب وليس العكس.
في بداية السبعينيات، بعد أن تمكن العسكر من السيطرة على قيادة الحزب، بدأت عسكرة الدولة بما تحتوي، وبدأ تشكيل الأجهزة الأمنية، وبدأت الدولة تأخذ شكلها الشمولي، وذلك من خلال مماهاة جسم السلطة بجسم الدولة، وتشكلت ما بين عامي 1970 و1976 معظم الأجهزة الأمنية، وتغلغلت ضمن المجتمع والمؤسسات، وأصبح المجتمع والمؤسسة والجهاز الأمني في خدمة السلطة، أي أن كامل الدولة، جغرافيًا وديموغرافيًا واقتصاديًا وعسكريًا، بكل مؤسساتها، في خدمة السلطة الحاكمة التي لم تخجل من أن تُعلن نفسها قائدًا للدولة والمجتمع.
كانت الأغلبية المُشكّلة لهذه الأجهزة من أبناء الطبقة الفقيرة من المجتمع السوري الذي كان موزعًا بين من يعمل في الزراعة أو التجارة، أو موظفين حكوميين أو مغتربين، وكانت الغلبة العددية لأبناء الفلاحين الفقراء الذين لا يملكون أرضًا كافية لزراعتها، وأبناء الموظفين، كون التطوع في أحد هذه الأجهزة ذا مردود سريع.
بدأت الأجهزة الأمنية بالسيطرة على الجهاز الحزبي الذي أصبح يُشكّل القائد للدولة والمجتمع، وهو المعني بتشكيل المؤسسات والإدارات، فأصبح التعيين في الوظائف الحكومية -من مستخدَم في مدرسة حتى وزير- من خلال الحزب، ولكن بأمر من أحد الأجهزة الأمنية التي بدورها تُعيّن قادة الحزب نفسهم، من خلال انتخابات شكلية معروفة النتائج سلفًا، وأصبح الحزب أداة في يد السلطة ومنفذًا لقراراتها، وليس راسمًا لسياساتها الاجتماعية والاقتصادية.
مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وبُعيد أحداث الإخوان المسلمين وحرب لبنان 1982، استطاعت الأجهزة الأمنية ابتلاع كامل السلطة والدولة على حد سواء، وأصبح الجهاز الأمني هو السلطة الحقيقية، وكان دافعها وحجتها ثلاثة أمور:
1 – الخطر الداخلي على السلطة من الإخوان المسلمين.
2 – الخطر الخارجي من “إسرائيل” وحربها في لبنان.
3 – النزاع الداخلي على السلطة (حِقبة رفعت الأسد).
بعد الثمانينيات، تشعبت الأجهزة الأمنية، وأصبحت أكثر علانية في تسلطها على مفاصل الدولة، وأخذت شكلًا أخطبوطيًا، وأصبحت سياسة الدولة كاملةً تُرسم من خلال الأجهزة الأمنية، ولم يفلت من سيطرة هذه الأجهزة في سورية إلا (حالة الطقس) بغض النظر عن بعض محاولات (مشروع الاستمطار).
تداخلت الأجهزة الأمنية ببعضها، وتنازعت الصلاحيات الموكلة إليها، وصولًا إلى التصادم في أحيانٍ كثيرة، وكان ذلك ينعكس على الحالة الاجتماعية والاقتصادية للمواطن، وشكّل ذلك (الحقن بالتدريج).
مع نهاية التسعينيات وبدايات الألفين، ومع المحاولات الخجولة للانفتاح الاقتصادي وبداية تشكيل قطاع خاص حقيقي، والتوسع في القطاع السياحي، كانت الأجهزة الأمنية قد بدأت تأخذ شكلها المافيوي، ودخل الكثير من رجال الأجهزة الأمنية، بمشاركة رجال الأعمال والتجار (شراكة قسرية) من حيث احتكار الوكالات التجارية العالمية في قطاعات، مثل الدواء والآليات والمواد الغذائية والتبغ وغيرها، وتحولت وزارات الدولة إلى إقطاعات خاصة تحكمها وتديرها الأجهزة الأمنية.
بقيت العسكريتارية مهيمنة حتى بين الأجهزة الأمنية، إذ كانت الأجهزة العسكرية، وهي شعبة المخابرات العسكرية وإدارة المخابرات الجوية، أقوى وأكثر تسلطًا واستبدادًا من باقي الأجهزة، مثل شعبة الأمن السياسي وإدارة المخابرات العامة، وهنا أود الإشارة إلى أني لا أعرف الفرق بين الشعبة والإدارة.
لا أعتقد بوجود مواطن سوري لم يُعانِ بطريقة من الطرق من تسلط هذه الأجهزة، مهما علا شأنه أو صغر، فكل حركة لأي مواطن، أو مقيم (عراقي – لبناني – فلسطيني…) كانت بموافقة أمنية و”تعهد”، وإن بقي هذا التعهد حِبرًا على ورق، في كثير من الأحيان.
بذلك ابتلع الأمن الدولة والسلطة معًا، وكانت بداية نهاية حكم سلطة حزب البعث في سورية.