شكّلت حادثة استشهاد عبد الباسط الساروت نقطة فاصلة، في مسار ما تبقى من الثورة السورية؛ حيث ارتبط اسمه بالأيام الأولى للثورة، ويمكن من خلاله رصد تحولاتها الكبرى، وصولًا إلى الحالة التي وصلت إليها الآن، وقد كُتبت خلال الفترة الماضية عشرات، وربما مئات، المقالات التي ترصد مسيرة الساروت، ما بين الصعود به إلى مصافّ القادة الثوريين الكبار وتمجيد سيرته، على الرغم من بعض الملاحظات التي تبدو صغيرة أمام ما فعله، لكن ما لفت نظري هو أن الساروت ظل، حتى الأيام الأخيرة من حياته، في الفيديو الأخير، مصرًا على أن الثورة سوف تنتصر، ولم يفقد الأمل، بل إنه كان في كل مرة يزداد إصرارًا على مواصلة الكفاح، أو ما يسمى “الجهاد” حتى تحقق الثورة ذلك النصر الذي طال انتظاره، وفي إصراره ذاك يقف الساروت على النقيض من الجميع تقريبًا، حيث إنه لم ينجرف في موجة الاستجداء التي باتت تحكمنا، عند حدوث المجازر التي ترتكبها بشكل منظم قوات النظام، إذ ترتفع الأصوات على الفور لتناشد “الضمير العالمي”، مع أن هذه التوسلات، على مدى ثماني سنوات، لم تجدِ نفعًا، ولم تقدم أو تؤخر في المعادلة شيئًا. على العكس تمامًا، فإن الساروت لم يتوسل العالم، بل كان في كل مرة يظهر أكثر قوة وتحديًا، وهو لم يعدم وسيلة للبحث عن وسائل لاستمرار “كفاحه” ذاك الذي سوف يسمى “جهادًا”.
فكيف تحولت الثورة من فعل إصرار وصمود إلى فعل استجداء وتوسل؟
يمكن بسهولة القول إن وحشية نظام دمشق وداعميه، وحجم الجرائم التي ارتُكبت طوال السنوات الماضية، وعدم وجود ردة فعل مماثلة، كانت كلها عوامل ساهمت في انتشار اليأس، وانعدام القدرة على الفعل، ولذلك بدأ اللجوء إلى استنهاض الضمير الإنساني العالمي، لعله يكون قادرًا على التأثير، وإيقاف هذه المجازر، على الرغم من أنه لم يثبت، تاريخيًا، أن الشعوب نجحت في ذلك، وإن هي خرجت في تظاهرات حاشدة، كتلك التي خرجت في العاصمة البريطانية لندن احتجاجًا على الحرب الأميركية البريطانية على العراق، فما الذي فعلته تلك المظاهرة الحاشدة؟ لا شيء فعليًا، سوى أنها دفعت بجيريمي كوربين إلى الواجهة، فالحرب وقعت ودُمّر العراق تدميرًا شبه كامل، وعاد جورج بوش إلى مزرعته مزهوًا بإنجازه، تمامًا كما يعود رأس النظام كل ليلة إلى بيته، ليجلس مع أولاده ويمارس هوايته المفضلة في لعب ألعاب الفيديو، فيما نواصل نحن حالة الاستجداء والتوسل من جديد. وكنتُ في وقت سابق قد علقت على فكرة إطلاق ما يسمى “الهاشتاغات” معتبرًا أنها قيادة للرأي العام في اتجاه غير الاتجاه المطلوب، وهو اتجاه -على الأغلب- لا يخلو من اليأس، “أنقذوا ما تبقى” على سبيل المثال. مَن أولئك الذين سوف ينقذون ما تبقى؟ هل المقصود من هذا الاستجداء والتوسل خلق مظلومية سورية، أو سنّية، في مواجهة آلة القتل؟! إن كان ذلك هو المقصود، فإنه لم يتحقق بكل تأكيد، إذ لا يمكن لشعب ثائر أن يخلق مظلومية، وكان حريًا بنا أن نتمسك بعنادنا، وأن نرفع أصواتنا كل مرة لنقول إن هذا القتل لن يزيدنا إلا إصرارًا على مواصلة ثورتنا، إن كنا نريد مواصلة ثورتنا، أو أن نقرر التوقف عن الثورة.
وبمقدار ما يبدو هذا الكلام تنظيرًا، من شخص مرتاح نسبيًا، لا يتعرض لقصف يومي، إلا أنه تساؤل مشروع يحق لي طرحه، فما الذي حققه الاستجداء حقًا؟ لا شيء أبدًا. بل يمكنني المجازفة بالقول إن الثورة السورية تراجع صداها عالميًا، ولم يعد الشارع العالمي، الذي كنا نعوّل عليه، يكترث بما يحدث في تلك البقعة الجغرافية المسماة سورية، بل إن الخبر السوري في وسائل الإعلام العربية والعالمية تراجع كثيرًا، حتى إنه لم يعد موجودًا في بعض النشرات، لأن الصراع لم يعد موجودًا، فما يحدث كل يوم، تقريبًا، هو قصف، ينتج عنه قتل، يتبعه على الفور مناشدات إلى الضمير الإنساني الذي لم يصحُ، ولن يصحو.
فهل ينفر العالم من لحى “المجاهدين” حقًا، ولذلك كفّ عن دعم ثورتنا؟
هذا كلام يبدو ذريعة جيدة لنا، لنبرر سبب ابتعاد العالم عن ثورتنا، مع أن العالم نفسه يفاوض سرًا وعلانية حركة طالبان التي لم تُهزم حتى اليوم، وإن كان ذلك التبرير في جزء منه صحيحًا، لأن أولئك “المجاهدين” مرفوضون أصلًا من غالبية جمهور الثورة، لكن أيضًا لأن “المجاهدين” أنفسهم، لم يحققوا نصرًا على قوات النظام، يجعل العالم يعترف بهم منتصرين، وإنما انتصروا على فصائل الثورة فقط (هل نريد أن نتذكر، في عجالة، ما فعله مجاهدو جيش الإسلام بالثورة، أو ما فعله وتفعله جبهة النصرة؟) قبل أن ينضموا بدورهم إلى سلسلة الاستجداء، وهذه المرة استجداء بصيغة إسلامية، فالعالم يريد إبادة السنّة، ولا يريد أن تقوم قائمة لدولة الشريعة الحقيقية.
في مشهد قد يبدو بعيدًا بعض الشيء، زار الرئيس الإيراني حسن روحاني العاصمة الإيطالية روما، فقامت الحكومة الإيطالية بتحجيب تماثيل عصر النهضة، لكيلا تؤذي مشاعر ضيفها الإسلامي المتطرف، برؤية عري التماثيل وأعضائها الجنسية. أخفى الأوروبيون عصر نهضتهم كيلا يعقدوا اتفاقيات تجارية مع روحاني المنتصر بعد عقد الاتفاق النووي.
العالم لا يعترف إلا بالمنتصرين، هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن ندركها، قبل أن نواصل سلاسل نواحنا، وإن انتصرنا فقط سيقف العالم ليصفق لنا، أما ذرف الدموع، فهذا لن يقدم ولن يؤخر.
استشهد الساروت وهو مُصرٌّ أيّما إصرار على النصر، ولم يستجدِ أحدًا. ذلك درس كبير لو كنتم تعلمون.