تعيش المنطقة العربية، وبخاصة دول الخليج، حالة ارتباك سياسي وارتفاع لمنسوب الأخطار الأمنية في محيطها الإقليمي، على وقع الارتدادات الناتجة عن ارتفاع درجة التصعيد الأميركي الإيراني، حيث شهد مطلع أيار/ مايو الماضي، حدوث تحشيد عسكري أميركي في بحر العرب، هو الأكبر منذ غزوها للعراق 2003. وادّعت أميركا أنها تلقت معلومات استخبارية، تدل على نية إيران تنفيذ عمليات عدائية ضد حلفاء أميركا ومناطق نفوذها في المنطقة، وأضافت أن الهدف من تعزيز الانتشار هو ردع إيران عن قيامها بأعمال تخريبية قد تصل -وفق تقدير واشنطن- إلى خطأ في الحسابات، قد يُشعل فتيل الحروب في كامل المنطقة.
وعلى الرغم من كل التعزيزات الأميركية في المنطقة، فإن ذلك لم يمنع إيران من ممارسة علميات تخريبية، بهدف إيصالها عدة رسائل للغرب ودول وأوروبا، إذ رفعت منسوب الأخطار في حركة الملاحة البحرية في مضيق هرمز وعُمان، واستهدفت -عبر أذرعها ووكلائها- ناقلات ومنشآت نفطية تابعة لدول الإمارات والسعودية، وعبر ذراعها في اليمن (الحوثيين)، هددت الأمن القومي السعودي بعد فرض حالة خطر أمني على الحدود السعودية وفوق المطارات (أبها) وعرقلت جهود التحالف الإماراتي السعودي في اليمن، وبخاصة على طول الشريط الساحل لليمن (الجزر والموانئ البحرية). وعن طريق وكلائها في العراق، تكرر استهداف محيط السفارة الأميركية في بغداد بصواريخ كاتيوشا، ولم يتم حتى الآن التأكد من تحديد الجهات المنفذة، لكن مسؤولين داخل الإدارة الأميركية، كالسيناتور ليندز غراها، اتهموا ميليشيات تابعة لإيران في العراق.
وفي 21 حزيران/ يونيو الجاري، تبنّت إيران إسقاط طائرة أميركية من طراز (غلوبال هوك) المتخصصة في عمليات الاستطلاع، فوق نطاقها المائي الحيوي، وهددت عبر وسائل إعلامها التابعة للحرس الثوري الإيراني، بأنها سترد على أي عمل أميركي يهدد مصالحها في المنطقة، كما توعد قائد الحرس الثوري حسين سلامة، بشن عمليات أخرى مستقبلًا.
يدخل التصعيد الأميركي الإيراني حالة من الغموض والغليان، بعدما امتنعت أميركا في اللحظات الأخيرة عن توجيه ضربة عسكرية لإيران كرد على إسقاط الطائرة، بل اتجهت نحو امتصاص الصدمة، وتهدئة الأوضاع لمنع إيران من تنفيذ عمليات استفزازية أخرى، وهو الأمر الذي طرح العديد من الأسئلة عن سبب تكثيف انتشارها العسكري في البحر المتوسط وخليج عُمان، في موقف امتنعت فيه عن ممارسة دورها في الحالتين، الهجوم والدفاع، ومن جهة أخرى، يعكس عدم الرد الأميركي حالة الانقسامات الداخلية التي تعيشها مؤسسات البيت الأبيض والكونغرس، التي أظهرت في اللحظات الأخيرة ردّات فعل متضاربة، وتركت إشارات استفهام عن سبب تراجع ترامب عن توجيه ضربة عسكرية على إيران.
أسباب التصعيد
أميركا هي من بدأ سياسة التصعيد، وجاءت تحركاتها العسكرية الأخيرة، بعد تنفيذ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب استراتيجية الحصار القصوى ضد إيران، تنفيذًا لما بات يُعرف بخريطة الطريق للتعامل مع إيران بوثيقة مؤلفة من 12 بندًا، أعلنها وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في 26 نيسان/ أبريل 2018، واتبعت الإدارة، لتحقيق أهدافها، سلاح الحصار الاقتصادي، وفرضت عقوبات اقتصادية على قطاع النفط الإيراني، بعد مرور شهرين على قرار انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، في 8 أيار/ مايو 2018، وفي 2 أيار/ مايو 2019، ألغى ترامب حزمة الإعفاءات التي منحها للدول الثمانية المستوردة للنفط الإيراني، وفي 9 نيسان/ أبريل، صنّفت مؤسسات واشنطن الخاصة للتعامل مع المنظمات الإرهابية، الحرس الثوري الإيراني، على قائمة الإرهاب، وهي أول مرة يتم فيها تصنيف جيش نظامي في لوائحها.
وكانت تهدف استراتيجية الإدارة الأميركية، من وراء الضغوطات الاقتصادية والسياسية على إيران، إلى إجبارها على تغيير سلوكها، بما يتعلق بسياستها التوسعية خارج نطاق حدودها، وسحب قواتها من سورية، وتوقيع اتفاق نووي جديد، يعود بشكل يتناسب مع المصالح الأميركية، علمًا أن الاتفاق النووي هو وثيقة تم توقيع بتفاهم دولي وقّعت عليه دول 1+ 5، بقرار مجلس الأمن 2231، وليس محصورًا بين طرفين على وجه الخصوص.
كانت إيران تعتقد أن سياسيات ترامب غير منطقية، وتهدف إلى تفكيكها من الداخل، بفعل فرض حصار مطبق عليها، وإجبارها على عدم تصدير نفطها وإيصاله إلى رقم صفر، بهدف تنازلها أمام التوجهات الأميركية والخضوع لمطالبها، وهو الأمر الذي لم تقبل به، فرفضت كل إملاءات ترامب، وهددت بأنها، إذا مُنعت من تصدير نفطها فلن يستطيع أحد تصدير نفطه في المنطقة، واعتبر قائد القوات البحرية الأميرال حسين خانزادي أن الوجود الأميركي في المنطقة استعراضي، ويهدف إلى ابتزاز دول الخليج.
كما أن إيران لم تعد تُعوّل على دول الاتحاد الأوروبي في التعاملات التجارية، بعد امتناع الأخيرة عن تطبيق آلية ترويكا لحماية القطاعات النفطية الإيرانية من العقوبات الاقتصادية، فأعلنت عدم التزامها ببعض بنود الاتفاق النووي، وتوعدت بإعادة تخصيب اليورانيوم، والماء الثقيل، بثلاثة أضعاف إضافية، وأمهلت الاتحاد الأوربي 60 يومًا لتنفيذ تعهداته.
إيران وسياسة حافة الهاوية
إن استمرار الولايات المتحدة في سياسة خنق إيران اقتصاديًا دفع طهران إلى نقل التصعيد إلى مرحلة أخرى، والانتقال من الإجراءات الاقتصادية، إلى العمليات العدائية المحدودة، بهدف زيادة الضغط على الولايات المتحدة وإجبارها على إعادة النظر في سياسيات الحرب الاقتصادية، وبدا أن لجوءها إلى خيار ممارسة السياسيات العدائية في اليمن وسورية، والعراق وبحر العرب، يعود لسبب ظهور آثار العقوبات على الداخل الإيراني، حيث صرح الخبير في الشأن الإيراني نبيل العتوم لـ (جيرون) بأن “إيران بدأت تمارس سياسية حافة الهاوية مع أميركا، لأنها استشعرت خطر تداعيات العقوبات الأميركية على انهيار العملة الوطنية الإيرانية (التومان)، ووصول القيمة إلى 14 ألف أمام الدولار، وغلاء المواد الأساسية بنسب غير مسبوقة 150 إلى 200 بالمئة، فضلًا عن الغلاء الفاحش في الأدوية وفقدانها في الأسواق، إضافة إلى ارتفاع نسبة التضخم بين 85 إلى 90 خلال الشهر الماضي، وانخفاض صادراتها النفطية إلى 250 ألف برميل، بعدما كانت أكثر من 3 مليون في السنوات الخمس الماضية”.
وأضاف العتوم أن “إيران تقصد من وراء سياسية حافة الهاوية واستهدافها طائرة (غلوبال هوك) الأميركية، تحسين شروط التفاوض”، معللًا ذلك بوجود “معركة كسر إرادات سياسية تعيشيها إيران، بين تيار المحافظين والإصلاحين، وكل طرف يريد أن يحمّل الطرف الآخر مسؤولية ما يجري، وهناك مواقف نشرت عبر وسائل الإعلام الإيراني، وتصريحات ناشدت منشد الثورة فتح حوار لإيجاد حل سياسي تاريخي مع الولايات المتحدة الأميركية قبل فوات الأوان. وبالتالي فإن الضربة الأميركية لم تُلغَ بل أُجّلت، لأن الرسالة الإيرانية وصلت في قبولها التفاوض”.
على حين اعتبر الباحث والخبير في الشأن الإيراني حسن هاشميان، في تصريح خاص لـ (جيرون)، أن “سياسة إيران العدائية واضحة، فمن خلال دخولها حربًا مع الولايات المتحدة بشكل محدود، تريد قلب التوازنات الموجودة في موضوع العقوبات الاقتصادية، كونها لم تعد قادرة على مواجهتها وردعها”. لذلك فإن إيران، بحسب هاشميان، “قررت نقل المعركة من الاقتصاد إلى العسكرة، عن طريق وكلائها المنتشرة في مناطق نفوذها، بهدف البحث عن آفاق جديدة للمفاوضات غير التي طرحتها الولايات المتحدة الأميركية”.
وأضاف هاشميان أن “الرئيس الأميركي، بعد إلغائه الضربة العسكرية ضد إيران، أعطى فرصة أخيرة للمعتدلين والإصلاحين أن يتحركوا أكثر، ويتعاملوا مع الجهود الدبلوماسية المتعلقة بخصوص إيران، وأكد ذلك بعدم وجود مواقف متشددة من قبل وزير الخارجية جواد ظريف، والرئيس حسن روحاني، وهذا يعني رغبة هذا التيار في العودة إلى طاولة المفاوضات، وقد تظهر كل النتائج خلال الأيام القادمة التي ستشهد تحركًا دبلوماسيًا خاصة للمؤتمر الثلاثي الأمني المُرتقب في تل أبيب”.
أسباب تراجع ترامب
تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، كما أكد تقرير نيويورك تايمز، قبل عشر دقائق من تنفيذ الضربة العسكرية التي كانت ستستهدف ثلاث نقاط استراتيجية، منها بطاريات صواريخ إيرانية ودفاعات جوية، ويعتقد الخبير في الشؤون الأميركية الدكتور ماك شرقاوي، في تصريح خاص لـ (جيرون)، بأن الرئيس دونالد ترامب “أعطى فرصةً لنفسه للتراجع عن الضربة، وذلك من خلال أمرين الأول: قوله عقب إسقاط الطائرة أن الرد سيتسبب في مقتل 150 من الموطنين، وهو مالا يتناسب مع إسقاط طائرة بدون طيار، والثاني أن الرئيس استمع لنصيحة سابقة، ففي الليلة التي تراجع فيها عن الضربة، نصح تقرير ظهر في محطة (فوكس نيوز)، الرئيس دونالد ترامب بعدم القيام بعمل عسكري ضد إيران، وذكره بما حدث إبان فترة الرئيس جورج بوش الابن الذي شن حربًا على العراق وخسر 25 بالمئة من شعبيته، من جراء استماعه للسياسيين الذين يطالبونه اليوم بحرب على إيران”، ويرى الشرقاوي أن هذا التقرير أحد أهم الأسباب التي ساهمت في تراجع ترامب عن الضربة”.
وأضاف الشرقاوي: “لا شك أن التراجع سيؤثر في هيبة أميركا، لكن يمكن تفسير هذا الأمر من جهة أخرى: رغبة ترامب في إفساح المجال لجولة مفاوضات جديدة، وهذا يتماهى مع إرسال رسالة لإيران، عبر سلطنة عمان، تحثها على العودة للمفاوضات، كما سرب مصدر في الخارجية الإيرانية تصريحًا عن أحد التيارات داخل الحرس الثوري جاء فيه: نحن نقبل بمقابلة الدبلوماسية بالدبلوماسية، أما عن الحرب فسوف يرد عليها بإجراء حاسم. وهذا يعني أن إيران ترغب ضمنيًا في العودة للمفاوضات، لكن بغير الشروط الاثنتي عشر التي تعتبرها مجحفة بحقها.
خلاصة
بناءً على المعطيات الواردة، يبدو أن الرئيس ترامب تراجع عن الضربة، لكونه يعلم أن إيران ترغب في العودة للمفاوضات، وبذلك فإن عدم رده على إيران في الوقت الحالي، لا يُعد تنازلًا ونسفًا لجهود إدارته، وربما يكون ذلك الفرصة الأخيرة، لما قبل التحشيد الأميركي لحلفائها، فالأيام القادمة ستشهد سلسلة من الاجتماعات ستقودها واشنطن في باريس الفرنسية وتل أبيب، والموضوع الإيراني سيتصّدر كل المباحثات، وسيزيد من نسبة التأثير والنبذ الدولي على إيران، وصولًا إلى إعادتها للمفاوضات، وتوفير كلفة الحرب التدميرية التي يعمل ترامب على تأجيلها في الوقت الحالي، حفاظًا على حملته الانتخابية الثانية للانتخابات الرئاسية 2020.
تعليق واحد