ما هي الطائفية؟!
طرح هذا السؤال سيبدو غريبًا بالتأكيد، لأن الجواب عليه يبدو جليًا، فالطائفية تبدو مفهومة وواضحة للجميع، ولا سيّما أننا ما زلنا نعاني منها الأمرين، وندفع بسببها أغلى الأثمان!
مع ذلك، يمكن القول إن الأمور ليست بالبساطة التي تبدو عليها، وتبسيطها بهذا الشكل سيؤدي إلى تسطيحها، وعدم فهمها بالشكل الصحيح، وبالتالي التعامل معها بالشكل غير صحيح!
إن فهمنا المعتاد للطائفية يتعامل معها كظاهرة دينية، أو كظاهرة مرتبطة بالتعصب الديني، وهذا ليس غريبًا، طالما أن الطائفة هي عبارة عن “فرقة دينية” تقوم على مذهب ديني محدد، وتراه الأصح أو الأوحد في صحته، ما يعني رمي الآخرين في دائرة الخطأ، بدرجة جزئية أو كلية، وبما أن الصحيح هنا يقترن بالدين ويأخذ معنى دينيًا، فالخطأ بالمقابل سيأخذ معنى دينيًا ويمكنه أن يصبح ضلالًا وكفرًا!
هنا يمكن وصف التعصب بأنه درجة تخطيء الآخر، وما يمكن أن يبنى على هذا التخطيء، فإن وصل هذا التخطيء إلى درجة التكفير، فهذا هو التعصب والتطرف، وإن بُني على هذا التكفير موقف عدائي من الآخر، بناء على كفره، فهنا يكون الأمر قد وصل إلى حالة العنف التكفيري!
وهذه الحالة لا تكون عادة مرهونة بالعامل العقائدي وحسب، فهي لا يمكنها أن تنفصل عن بقية العوامل الاجتماعية المحيطة، وهي تتفاعل معها فعلًا وانفعالًا، والعلاقة طردية بين وضع المعتقدي والمجتمعي، فكل عامل من هذين العاملين يتحسن أو يسوء بشكل يتوافق مع تحسن أو سوء الآخر.
فهل تم في ما تقدم توصيف “الطائفية” والتعصب الطائفي”؟!
فعليًا، لا!
فما جرى الحديث عنه حتى الآن هو “التدين” و”التمذهب” و”التعصب الديني أو المذهبي”!
فبماذا إذا تختلف الطائفية؟
للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من توضيح مفهوم “الطائفة”.
الطائفة هي “جماعة دينية”، وبمعنى آخر هي “جماعة بشرية” تقوم على أساس ديني، سواء كان هذا الأساس دينًا مستقلًا أم مذهبًا فرعيًا من دين، وبالتالي يجب التعامل مع “الطائفة” على أساس أنها “جماعة” كغيرها من الجماعات البشرية، تتصف بكل ما تتصف به هذه الجماعات، وبالطبع من دون إغفال خصوصيتها الدينية، التي مع ذلك ليست هي خصوصية استثنائية أكثر من الخصوصية القومية أو العرقية للجماعات القومية أو العرقية!
إذًا ما الذي قد اختلف؟!
ما قد اختلف أننا في “حالة الجماعة” نجد أنفسنا أمام “حالة انتماء”، أما في الحالة الدينية، فنحن أمام “حالة اعتقاد”، فإذا كان التطرف الديني يُنتج “ظاهرة تكفيرية”، فالتطرف الانتمائي ينتج “ظاهرة تطرف عنصرية”، ما يعني أن “التعصب الطائفي” هو “حالة تطرف عنصرية” تقوم على حدة الانتماء، وهي حالة لا تكون منفصلة غالبًا عن التعصب المعتقدي، لكن هذا لا يعني أن الانفصال غير وارد.
فعليًا؛ عند تشكل جماعة دينية على أساس ديني أو مذهبي، تتقدم العقيدة وتعلو على الجماعة، التي تستمد عصبيتها وروحها الجامعة من الإيمان المشترك الجامع لأفرادها، وبالتالي بقدر ما يكون الإيمان بالمذهب قويًا وشديدًا، تصبح روح الانتماء للجماعة قوية وشديدة مثله وبالتبعية له، لكن هذه الحالة لا تبقى ثابتة، فمع مرور الزمن تصبح “الجماعة الدينية” أو “الطائفة” جماعة قائمة بذاتها، ولها شخصيتها المحددة كجماعة والمستقلة عن المعتقد الذي قامت عليه نفسه، وبذلك تصبح الرابطة بينها وبين أبنائها رابطة مباشرة، وتتم غالبًا بالوراثة العائلية، وكأن الطائفة هنا تحولت إلى قبيلة.
هذا ليس غريبًا، فالجماعة البشرية التي تنشأ على أي أساس، وتستمر وتترسخ وتنمو على هذا الأساس، مع مرور الزمن تتبلور كشخصية جمعية، أو كوحدة اجتماعية، وتنشأ لديها لحمتها الخاصة وتقاليدها وروابطها وخصوصياتها غير المؤطرة حصرًا في الأساس الذي نشأت عليه، أي المعتقد في الحالة الطائفية، وهكذا يصبح المعتقد جزءًا من كل جامع لهذه الجماعة.
بماذا يفيدنا ما تقدم؟!
إنه يفيدنا لفهم لماذا يتعصب البعض لطوائفهم مع أنهم ليسوا متدينين! وهذه ليست حالة نادرة في مجتمعنا إطلاقًا، فكثيرون يكادون يكونون غير متدينين، ولكنهم يبقون على عصبيتهم القوية في ما يتعلق بطوائفهم، وهذا يعني أنهم، وإن كانوا بشكل ما قد تخلصوا من “تطرف المعتقد”، لم يتخلصوا من “تطرف المنتمى”، بمعنى آخر من “غريزة القطيع”، ومعنى هذا أن خلاصهم من تطرف المعتقد لم يكن نتيجة حالة من الارتقاء الثقافي العقلاني الكافي، وكثيرًا ما يكون نتيجة وجودهم في بيئة هي نفسها غير متدينة وغير متعقلنة بنفس الوقت والقدر، وهذه الحالة كثيرًا ما تشهد ردة باتجاه المعتقد، قد يكون محركها دينيًا أحيانًا، أو قد يكون سببها انتمائيًا، بحيث يصبح الانتماء المتطرف إلى الطائفة دافعًا للتشبث بمذهبها وإيلائه الأهمية الاستثنائية من منطلق عاطفي، وهذا ما يمكن للنفعية أن تستغله، فتقوم بالتركيز على المذهب والدعاية المذهبية والطائفية معًا، لشد لحمة الطائفة وتقوية عصبيتها وتسخير ذلك لغرض معين، وهذا الغرض قد يكون ردة فعل دفاعية أحيانًا أو عدوى محيطية من سواها، وقد يكون -وهذا الأسوأ- مبادرة عدوانية ضد الغير.
إذًا علينا ألا ننغرّ، إذا وجدنا طوائف لا تتميز بحدة التدين، فاستمرار بقائها كطوائف يعني أن الرابطة الطائفية فيها ما تزال قوية، وقوية بما يكفي لإنتاج تعصب طائفي في الظروف المناسبة، والطائفية هنا لا تعود تختلف عن “القبلية” و”العشائرية”، حيث تلعب قوة الانتماء إلى الجماعة دورها الأساسي في الحفاظ على الجماعة نفسها، وتبقي الأرضية جاهزة لنمو التطرف والعدوانية تجاه الغير، وليَسود مبدأ “وما أنا إلا من غزيّة إن غوت.. غويت وإن ترشد غزية أرشدِ”.
لن يكون من الموضوعي إعطاء توصيف مطلق السلبية لظاهرة الطائفية، فهي تظهر في التاريخ البشري كغيرها من الظواهر الاجتماعية الأخرى، ولها أسبابها الموضوعية، والطائفية هي ظاهرة ترتبط بكل من “الدين” و”التجمع البشري” في “جماعات”، وبالطبع لا يمكن المساواة بين كل الجماعات البشرية بأشكالها المختلفة من ناحية التعصب والتسامح، فهذا مرتبط بظروف نشأتها، وبمسيرتها التاريخية، المرتبطة بدورها بخصوصية هذه النشأة وبالظروف المحيطة بالجماعة الناشئة على مدى تاريخها، وفي الوقت ذاته لا يمكن إغفال تأثير الظروف المحيطة بنشأة أي جماعة على نشأة هذه الجماعة.
وبالتالي يمكن القول إن التطرف الطائفي عند كل طائفة يمكن عزوه إلى عوامل تاريخية وعوامل حاضرة، وهذه العوامل بدورها جدلية العلاقة.
في الجانب التاريخي، تلعب نشأة الطائفة ومدى التعصب والتطرف في مذهبها المؤسس دورها في إعطاء صفة أولية لهذه الطائفة، وهذا بحد ذاته يلعب دورًا جزئيًا أساسيًا في تحديد علاقة هذه الطائفة مع سواها، فيما تلعب ردة فعل الطوائف الأخرى المتعالقة مع هذه الطائفة جزءًا أساسيًا آخر من هذا الدور، الذي تلعب بقيته عوامل خارجية مستقلة عن الطوائف المتعالقة نفسها.
هذا يرسم تاريخًا للطائفة نفسها، ويصنع في المحصلة خلاصة واقعية في كل لحطة حاضرة من وجودها لمجمل العلاقة بين تأثيرات العوامل الداخلية الخاصة بهذه الطائفة وتأثيرات القوى الخارجية عليها، ومن المنطقي القول إنه بقدر ما تكون المذاهب التأسيسية للطوائف المتعالقة متسامحة، فهذا يصنع تاريخًا تسامحيًا بينها، والعكس بالعكس.
إضافة إلى المحصلة التاريخية لتاريخ كل طائفة، التي تتحول في كل لحظة إلى عامل ذاتي داخلي محرك لسلوك الطائفة، فهذا السلوك أيضًا يتأثر بقوة بالظروف الآنية المحيطة، فحتى إذا كان المذهب التأسيسي لطائفة ما على درجة عالية من التسامح، فالظروف المحيطة السيئة ستدفع هذه الطائفة إلى الانغلاق والتعصب، والتعرض المستمر لطائفة متسامحة المذهب لاضطهاد من قبل طوائف أخرى سيخلق عندها ردة فعل تعصبية وعقدة اضطهاد تطبع شخصيتها إلى مدى بعيد، وفي الحالة المعاكسة يمكن أن يحدث العكس، فحتى مذهب متعصب لطائفة ما يمكنه أن يصبح قليل التأثير في ظروف اجتماعية حسنة، ومن الأمثلة على ذلك، تحول كنائس القرون الوسطى إلى قوى اضطهاد ديني متطرفة، على الرغم من قيامها، من حيث المبدأ، على عقيدة تدعو على المحبة والسلام هي عقيدة السيد المسيح، وفي الزمن الحالي يمكن الحديث مثلًا عن تعصب وتطرف بوذيي ميانمار (بورما سبقا) ضد الروهينغا، على الرغم مما تتصف به البوذية من تسامح ومسالمة، وبالمقابل نجد حتى في اليهودية طوائف يهودية متسامحة كالقرائين، رغم العنصرية العالية التي تحتويها أسفار اليهود المقدسة.
إن قدرة الطائفة كجماعة بشرية على تجاوز مذهبها المؤسس، تجعلها في كثير من الأحيان قادرة على المضي بعكس هذا المذهب تسامحًا أو تعصبًا، وهذا مرهون بتاريخ هذه الطائفة وبظروف واقعها الموضوعي المحيط.
في الحالة العربية، ومن ضمنها الحالة السورية بالطبع، لدينا مشكلة على الصعد الثلاثة: التأسيسي، التاريخي، والاجتماعي الحاضر.
تأسيسيًا، معظم طوائفنا الإسلامية، والمسيحية أيضًا، لديها “عقدة الفرقة الناجية” المتأصلة في مذاهبها، وهذه العقدة، إضافة إلى عوامل اجتماعية وسياسية داخلية وخارجية أخرى، أنشأت تاريخًا فيه الكثير من التوترات والصراعات الطائفية، التي لعبت دورًا كبيرًا في انهيار الحضارة العربية الإسلامية، وازدادت سوءًا مع هذا الانهيار.
واقعيًا، ما يزال إرثنا الديني والطائفي الذي يشكل امتدادًا لعصر الانحطاط إرثًا غيبيًا تعصبيًا، وإنكارنا لهذه الحقيقة البشعة لن يلغيها أو يغيرها.
مع ذلك، فنحن لسنا حالة نادرة في التاريخ، والأوروبيون الذين يعود إليهم أكبر الفضل في إنتاج الحضارة المعاصرة، لم يكونوا في عصورهم الوسطى أقلّ منا تعصبًا وتطرفًا وعنفًا من الناحيتين الدينية والطائفية، لكنهم أفلحوا في تجاوز ذلك.
لكننا ما نزال عاجزين عن هذا التجاوز، وهذا لا يعود إلى قصور ذاتي فينا، بل لأن القوى الخارجية دائمًا ما يكون لها الدور الأكبر في إجهاض أيّ محاولة نهضوية، يتم فيها تجاوز التعصب المللي والطائفي والعرقي وسواها، وقد تكرر هذا أربع مرات حتى الآن، ابتداءً من محاولة محمد علي إنشاء دولة عربية حديثة موحدة، التي أجهضتها بريطانيا وروسيا وفرنسا وتركيا بأدوار مختلفة، إلى الثورة العربية الكبرى التي أجهضتها أيضًا بريطانيا وفرنسا، عبر سايكس بيكو، إلى مرحلة الاستقلال الوطني بعد الحرب العالمية الثانية، التي افتتحها الاستعمار الغربي بإنشاء الكيان الصهيوني، والتي اتسمت بالتبعية القطرية إلى أحد المعسكرين العالميين، إلى ما نشهده حتى هذه اللحظة من مسخ وحرف لثورات الربيع العربي ودفعها في مسارات مناقضة لغاياتها خدمة لمصالح القوى الخارجية الإقليمية والدولية.
في المحصلة، نكون وصلنا إلى وضع كارثي ثلاثي الأبعاد: موروث تاريخي متخلف، وتدخلات خارجية خبيثة مغرضة مستمرة، وأوضاع متدهورة على كافة الصعد سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيا وسواها.
وفي مثل هذه الظرف المتردية المتوترة، لا يمكن للذهنية الطائفية المتعصبة أن تزول أو تضعف بل على العكس من ذلك، فالأجواء مواتية لها تمامًا لكي تنمو وتشتد.
فلكي ينمو التطرف الطائفي وأي تطرف عنصري آخر، لا بد من توفر العوامل التالية:
أولًا: موروث تاريخي فئوي متعصب، وهذا موجود لدينا بالقدر الكافي، وثمة قوى دينية وطائفية تحرسه وترسخه إما بسبب مصلحتها أو بسبب تدني مستوى عقلانيتها.
ثانيًا: دكتاتورية سياسية، تتلاعب هي نفسها بالعوامل الطائفية وتستغلها بما يخدم مصلحتها، أو تمنع بما تنتهجه من قمع وما تنتجه من فساد خلق الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المناسبة لتجاوز البنى الفئوية إلى مستوى اجتماعي وطني إنساني أعلى، أي أن الدكتاتورية السلطوية وشركاؤها باختصار إما ينمّون بشكل متعمّد التطرف الطائفي، أو يرسخونه ويعمقونه بشكل غير متعمد بواسطة القمع والتجهيل والفساد.
ثالثًا: وجود أوضاع اجتماعية متدهورة، أيًا كانت أسبابها وأخطارها، فهذا يبقي الحالة الطائفية على حالها أو يدفع الناس أكثر إلى الالتفاف على طوائفهم طلبًا للحماية والعون والأمان، وهذا يزاد في حالات الصراع أو الاستعداد للصراع، حيث تلتف كل طائفة على نفسها لخلق حالة التماسك اللازمة إما للدفاع عن النفس أو تستغل للاعتداء على الغير.
رابعًا: وجود دعاية دينية وطائفية قوية، لكن مثل هذه الدعاية، مهما كانت قوية، لن تكون ذات تأثير في بيئة مجتمعية متطورة، تضعف فيها العصبيات الفئوية وتسودها ظروف وأجواء اجتماعية متقدمة، فليس من العقلانية اليوم تصور أنه يمكن لأي دعاية طائفية أن تثير صراعًا كاثوليكيًا بروتستانتيًا في أميركا، أو صراعًا بوذيًا شنتوئيًا في اليابان مثلًا، ما يعني أن هذه الدعاية يجب أن تتكامل مع الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية المتردية!
خامسًا: وجود قوى خارجية مغرضة، إما تجهض محاولات النهضة التي تتجاوز الطائفية والمللية وما شابه، أو -وهذا الأكثر سوءًا- تستغل هذه العوامل وتحركها كما تقتضي مصالحها، ما يؤدي إلى نشوب صراعات كارثية تستغل فيها بأشد وأبشع الأشكال هذه العوامل الفئوية، ما يؤدي بدوره إلى ترسيخ وتضخيم التعصب الطائفي بما يتسبب به من دمار اجتماعي شامل ويخلقه من أحقاد ونقم.
هذه الظروف كلها ما تزال تعمل على الساحة العربية الراهنة، لتزيد السوء سوءًا، وينتشر التطرف والعدوانية عند الجميع، في المحصلة لن يكون هناك فرق بين إرهابي تكفيري وموتور طائفي، في ما يقومان به من عنف وإحرام، وباختصار لا فرق بين الداعشي والشبيح في ما يجرمان به بحق الوطن والإنسان.
والحل ينطلق من معرفة العلل، وللخلاص من التطرف الطائفي أو أي تطرف عنصري آخر، لا بد من الخلاص من أسبابه، لكن كما نرى، فالتعصب الطائفي هو ليس مشكلة منفصلة عن سواها ليمكن حلها بمعزل عن سواها، فهي جزء من كل، مؤثر ومتأثر ببقية الأجزاء، ولا يمكن حلها إلا عن طريق حل كلي حقيقي.
وهذا الحل هو -ببسيط الكلام- بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، الذي تقف في طريقه، إضافة إلى حالة التدهور الاجتماعي الشاملة، الدكتاتوريات السياسية والاجتماعية والدينية والطفيلية الاقتصادية والقوى الطامعة المغرضة الإقليمية والدولية!