هموم ثقافية

جريمة شرف أم جريمة مجتمع؟

يختلف هذا المقال عمّا سبقه، فهو ليس مقالًا أكاديميًا له مقوماته، أو مقالًا هادئًا؛ ولم أكتبه بصفتي كاتبة، إنما بصفتي امرأة معرضة للذبح في كل لحظة، إذا تخطت نظام المجتمع الذي تعيش فيه، وهو تعرية لواقع أصبحت فيه المرأة قابلة للاجتثاث من جذورها الإنسانية بذريعة “الشرف”، هذا المفهوم الذي قلبته عادات المجتمع البالية رأسًا على عقب، وجعلته متعلقًا فقط بجسد المرأة وعلى وجه الخصوص عذريتها إن كانت فتاة، ورحمها إن كانت متزوجة أو أرملة أو مطلقة.

ليس للشرف مقاييس أخرى في مجتمعنا وثقافتنا العربية، فهو يسعى الآن في تلك الثقافة لترسيخ تفوق الرجل على المرأة، بل يسعى للنكوص الأخلاقي على جميع المستويات (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية).

ما جرى في السويداء، منذ أيام، من جرائم بذريعة الشرف، وقبلها بأسابيع، وقبل قبلها بشهور، ليس إلا دليلًا قاطعًا على استشراء التخلف المتغلغل في الفكر المحصور بين العيب الاجتماعي والمحرمات الدينية. إن “ناديا” التي قتلها أخوها يوم الثلاثاء 18/6/2019، و”عبير” المقتولة بيد أحد أقاربها قبلها بأسابيع، و”دينا” بيد أبيها قبلها بشهور، لا يختلفن عن “هيباتا” عالمة الرياضيات الشهيرة التي سحلتها الكنيسة منذ قرون أمام أفراد المجتمع آنذاك، لتثبت لهم ولهنّ أن النساء هنّ نساء يجب قتلهنّ إن خرجن عن طاعة النظام الاجتماعي الذي وضعه الرجل، مهما بلغن من العلم، ومهما بلغن من مراتب أخرى، فهنّ في أحسن الأحوال “حريم”، ومفردها “حرمة” والحرمة هي: “ما لا يحلّ انتهاكه من ذمةٍ أو صحبة أو غير ذلك”، كما ورد في قاموس اللغة العربية. فثقافة الحريم بدأت في حضارة الفرس؛ حيث فرضت على المرأة اللثام كي لا تدنس النار المقدسة بأنفاسها، بحسب تعبير الدكتور محمد شحرور، مرورًا بحكم الكنيسة التي أعدمت خمسة ملايين امرأة على مدار ثلاثة قرون، منهنّ الطبيبات وعالمات في الرياضيات والفلك، ومحبات للطبيعة، وفنانات، وذلك بتهمة السحر والشعوذة، كما ورد على لسان دان براون، في روايته (شيفرة دافنشي)، فإذا استمرت جرائم الشرف على هذا النحو في مجتمعاتنا المتخلفة، فإننا سنسجل رقمًا قياسيًا وندخل موسوعة “غنيس” وبذلك نكون قد تفوقنا على الكنيسة في السلطة الموكولة إلى رجالنا الأكارم.

إذا افترضنا أن الفعل الجنسي ذنب تقترفه البشرية، ألم يقم باقترافه طرفان متكاملان؟ فلماذا تُقتل المرأة ويبقى الرجل الشريك في ذلك الفعل حرًا طليقًا؟ أم أن السلطة الأبوية (الاجتماعية) تعفي الرجل من قيمة العيب والحرام (الرجل عيبه على حذائه) تزيله خرقة مبلولة بالماء، أما المرأة فعيبها في جهازها التناسلي الذي لا تستطيع التصرف به إلا بأمر من السلطة العليا، ويظل العيب رفيق جسدها من المهد إلى اللحد.

السلطة الاجتماعية والسلطة الدينية، هما امتداد للسلطة السياسية، التي تميّز في قوانينها بين الرجل والمرأة، فتعتبر المرأة نصف الرجل، ونصف مواطنة، ونصف وارثة، وربع زوجة في ظل قانون تعدد الزوجات، لكن عندما يتعلق الأمر بالشرف؛ فتكون المرأة هي العائلة بأكملها والعشيرة بعنفوانها.

القيود الاجتماعية الصارمة أو المورثة، يجب أن تُستبدل بها قوانين وضعية عامة تسري على جميع أفراد المجتمع بالتساوي، وبلا أي تمييز بسبب القوة والثروة والجاه، أو التمييز الجنسي، أو الديني، أو العرقي، أو السياسي، مع أن القيَم الاجتماعية العامة متشابهة في غالبية لمجتمعات، كما أنها تندرج جميعها تحت مفهوم القيم الإنسانية، وهذا ما حدث في المجتمعات المتقدمة التي يسودها القانون. لكن المجتمعات المتأخرة، التي ضعفت فيها قوة الأعراف والعادات والتقاليد، وخضعت للاستبداد المحدّث؛ صارت كالغراب الذي أراد أن يقلّد مشية الحجل، فنسي مشيته ولم يتقن مشية الحجل.

المجتمعات المحكومة بالاستبداد، يضعف فيها الوازع الاجتماعي والوازع الديني والوازع الأخلاقي عمومًا، ولا تطبق فيها القوانين الوضعية إلاّ على الضعفاء “المستبد عدو الحق، عدو الحرية، وقاتلهما، والحق أبو البشر والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئًا، والعلماء هم إخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا، وإن دعوهم لبوا، وإلا فيتصل نومهم بالموت”. بحسب تعبير الكواكبي.

بعد أن كسرت المرأة بعضًا من حاجز الخوف والصمت، وخرجت إلى العمل في ظل الأزمة التي تعانيها سورية، لتعيل أسرتها بعد فقدان الكثير من الشباب والرجال، تعود لتُذبح كالشاة بذريعة الشرف. “ناديا” الضحية الأخيرة أرملة وأم لثلاثة أطفال هي المعيلة الوحيدة لهم.

لا تقتصر تلك الجرائم على مجتمع السويداء، إنما هي منتشرة في جميع المجتمعات التي تعاني من العنَّة الذكورية، ومن التعصب الديني والاجتماعي للموروث السائد والنظام الاجتماعي الصارم، وعدم مساواة المرأة بالرجل في الحقوق السياسية والمدنية، فالقانون الذي لا يقبل شهادة النساء في المحكمة من دون رجل، هو ذاته الذي يُبيح قتل النساء من دون إنزال العقوبة الذي يستحقها القاتل.

فلتثر النساء، كل النساء لحماية أنفسهن من الظلم الواقع عليهن في جريمة اعتبرها المجتمع والقانون “جريمة شرف”. لا شرف لقاتل مهما كانت الأسباب والدوافع لارتكابه مثل تلك الجريمة. ولا شرف لمجتمع يعتبر المرأة أقلّ منزلة من الرجل، مهما بلغ من تقدم أو حضارة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق