صباح الحرية يا ساروت… الحرية التي وهبتَها حياتكَ، وغنيتَ الحنين إليها وعيناك تغص بالدموع، كي ننتصر على الجحيم الذي يقتلنا، ويغدو وطننا جنة… أكتب إليك في يوم رحيلك، يوم يساوي سنوات ثورتنا التي كتبتَ بقطرات دمكَ أنبل معانيها وأحلامها. فقدكَ موجع يا أخي، وبكاؤنا عليك غسل قلوبنا، وجمعنا ننثر صوركَ وكلماتك قصائد حب على أرض الواقع وفي العالم الافتراضي. يا لجمال روحكَ في الحضور وفي الغياب.
ربما لن تصدق أني قبل رحيلك بساعات انتابني غمّ باتساع العالم، ووجدتني أبحثُ عنك على اليوتيوب، أعدتُ مشاهدة فيلم “العودة إلى حمص”، وتبعتُ رحلتكَ من الغناء في ساحات التظاهر إلى القتال على خطوط النار، بعد أن أدركتَ أن السلميّة وحدها لن تنتصر على بطش قوات النظام، وأن المجتمع الدولي لن يحمينا. في تلك الرحلة المسكونة بالأخطار والتهديدات التي امتدت إلى ما بعد الفيلم، وقادتك نحو تركيا، ثم انتهت بك في إدلب، كم كان ظهورك العلني في الميدان فاتحًا ذراعيك للموت، يأسر القلوب ويهز الوجدان، منذ أول شعار ابتكرتَه “اسمعْ اسمع يا قناص.. هيدي الرقبة وهيدا الراس”، حتى أغنيتك “يا يما زفيني/ جيتك شهيد”.
أصغيتُ إليكَ تنشد: “يا شعب ببيتو مش آمن”، “حرام عليك.. يلي بيقتل شعبو خاين”. فوجئتُ بأغنيتك الجديدة، تعدنا بالأمل رغم الجراح النازفة، وتلقي التحية على حرائر الجزائر وكنداكة السودان. ما من كلام بليغ يمثلنا ويصف حالنا، كما تفعل أغانيكَ يا بلبل الثورة، إنها الموهبة الأصيلة والشعرية الخالصة، إنه النظر بالقلب الذي يجعل الأحاسيس مثل أوتار الكمان، والرؤية صافية وكثيفة مثل دمعة.
شاهدتكَ على أرض المعركة تعلن استعادة قرية تل ملح في ريف حماة الشمالي، وتعِدنا بتحرير كامل سورية، قبل أن تصدمني حادثة إصابتك، ومن ثمة يطمئنني خبر إسعافك واستقرار حالتك الصحية، ولا أدري متى وكيف غفوتُ على صوتكَ وأنا أرجو الله أن يحميك، ليصعقني في اليوم التالي نبأ استشهادك، وأنت لا تزال في السابعة والعشرين ربيعًا، بكيتكَ ساعات بحرقة أمٍّ ثكلى، وودتُ لو أضم أمك العظيمة، أقبّلُ جبينها العالي، وأمسح عن خديّها الدموع، وحين فتحت صفحتي على (فيسبوك) لأكتب ألمي، وجدتُ الجميع سبقوني، ووجدتكَ تشغل منصات التواصل ووسائل الإعلام، وكأن الثورة تولد من جديد.
أتأمل صورك وأقوالك… في لقطة من تشييع المخرج باسل شحادة، تقف في الكنيسة، وتنظر بثبات إلى عدسة التصوير ممسكًا لافتة كُتب عليها “يا يسوع.. عن ثورتنا ما في رجوع”، وفي الأخرى تجلس إلى جانب أمك المحجبة، وفي الثالثة تقود تظاهرة مع الفنانة فدوى سليمان، تغني بين الجموع في الهواء الطلق، وتنام وحيدًا في العراء بجانب سلاحك، وتؤكد في كل تصريحاتك أنها ثورة شعب مقهور ضد نظام الأسد، تجمع كل أحرار سورية من عرب وكرد، سنة وعلويين وإسماعيليين ودروز ومسيحيين. وحين يسألونك عن شعورك إزاء مقتل أولاد خالتكَ وإخوتكَ الأربعة بنيران النظام، تجيب: “كل السوريين إخوتي، لا أميز بين شهيد وشهيد”.
أتأمل تفاصيل حياتك القصيرة… وُلدتَ في حي البياضة بحمص، ولم يسمح ضيق حال أسرتكَ النازحة من الجولان بأن تكمل تعليمك، عملتَ بالحدادة والتحقتَ بنادي الكرامة، وأصبحت حارس المرمى في منتخب سورية للشباب، وواحدًا من أهم لاعبي الكرة السوريين، وكان بمقدورك أن تنعم طويلًا بجمالك وشهرتك، لو لم يشعل أطفال درعا شرارة الاحتجاجات، بكتاباتهم على جدران مدارسهم، وبعذاباتهم في أقبية السجون، وتندفع تعاطفًا معهم للمشاركة في التظاهرات بكل ما لديك من عنفوان واستعداد للتضحية، وأنت لا تزال في التاسعة عشر من عمرك يا حارس الثورة. وحين أجبرتك الظروف على مغادرة البلد، قلتَ في وصف العام الذي قضيته في إسطنبول: إن الإحساس بالغربة أصعب من الحصار والقتال، وإن مهمة الثوار ليست بناء مخيمات جديدة، إنما إعادة الأهالي إلى مدنهم آمنين.
لم تتشكل رؤاك ومواقفك في رحم الكتب، ولا داخل قواقع الماضي، كانت تعبيرًا حيًا عن رهافة روحكَ وانفتاح عقلك ولياقة حواسك، وكانت انعكاسًا مباشرًا لمعايشتك المستمرة للواقع ووقائع الثورة، تتخلق لحظة بلحظة في الصراع اليومي مع القمع والحصار والموت، وتتدفق حارة وصادقة كما هي الدماء التي نزفتْ منكَ ومن حولك، وكان حضورك على الدوام ملهمًا، يفيض حكمة وطاقة إيجابية.
ربّما لم تتح لك الضربات الموجعة والمتلاحقة التي تلقيتَها أن تبلور أفكارك، وتنتقي مفرداتك بعناية، لكنك بخصالك الأصيلة من الشجاعة والذكاء وفطرة الخير ومرونة التفكير وحس الشراكة، كنتَ تبتكر أخلاقيات المدرسة السورية في الفعل الثوري وإرادة التغيير، انطلاقًا من واقع تغوّل الطغمة الحاكمة وأحقية الشعب السوري بالحرية والعدالة، مدرسة تجمع ما بين الحراك السلمي والكفاح المسلح، قوامها مشروع مدني ديمقراطي يتخطى حاجز العصبيات القبلية والدينية والطائفية والاثنية، ويلح على المصداقية والانسجام ما بين القول والسلوك، ويعتمد على الذات السورية بجميع مكونتها مع الاعتراف بمواضع ضعفها وحاجتها إلى الدعم والحماية الدولية، من دون اللهاث وراء المنافع والمناصب أو الانصياع إلى الأجندات الخارجية، وكنتَ تمضي نحو حلمك ببسالة وثبات، وفيًا لدم القتلى وعذابات المعتقلين والمشردين، لا تطلب غير النصر أو الشهادة.
قدرتكَ على الابتكار والتأثير، إصرارك وزهدك وظهرك المكشوف، زاد من أعدائك، وكان سببًا لتضييق الخِناق عليك، واستهدافك بعدة إصابات بليغة. قبل أن يحمل أي من السوريين السلاح، فصلك الاتحاد الرياضي العام في سورية، ومنعك من اللعب مدى الحياة، وبتَّ مطلوبًا للأجهزة الأمنية بتهمة الإرهاب وإنشاء إمارة سلفية، وتعرضتَ لأول محاولة اغتيال في حمص. وحين أسستَ كتيبة “شهداء البياضة” لقتال نظام الأسد حتى آخر قطرة دم، وأعلنتَ استقلالها عن أي هيئة سياسية أو فصيل مقاتل، هاجمت مقارّكم “جبهة النصرة” وبعض الفصائل الأخرى، أواخر عام 2015، وفي إدلب اعتقلتك “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقًا) ثم أخلت سبيلك عام 2017، وتعرضت لمحاولة الاغتيال الثانية في معرة النعمان عام 2018. كنت تنتقل من نار إلى نار، قبل أن تنضم إلى “جيش العزة”، وتقتلك نيران القوات السورية والروسية على الجبهة.
جئتَ الحياة فقيرًا، يا ساروت، ورحلتَ عنها مبدعًا ومعلمًا وبطلًا لم تعرف مثله التراجيديات، وستبقى ياسمينة بيضاء في قلوبنا، ورمزًا من رموز الشباب السوري الذي انتفض على نظام اغتال عقولنا وأعمارنا بإعلامه المضلل وأجهزته القمعية، شباب أعطى كل ما لديه من أجل الحرية، ولم يتلقَ سوى الرصاص وعتمة الزنازين. أودعك قبل أن تمنعني الدموع من الكتابة، وأتمنى عليك أن تقبّل جبين فدوى ومي وماري كولفن، وتوصل سلامي إلى حمزة وهادي وغياث ومشعل وباسل وأسامة، إلى كل الأرواح التي أضاءت ثورتنا وجعلتها أجمل شمس في سماء الربيع.