بداية لا بد منها:
ما من شك في أن اختراع السوشيال ميديا، وانتشارها السريع وما رافقها من أدوات لاستعمالها، كالأجهزة الذكية التي أصبحت في متناول ثلاثة أرباع البشرية، كان ثورة علمية حقيقية، لا تقل عن اختراع الكهرباء أو المحرك اللذين نقلا البشرية من الضنك والشقاء، إلى الرفاه والتقدم، والسوشيال ميديا هي فعل تقدمي عظيم، ومن خلال تطورها واتساعها، قدّمت للبشرية اتصالًا إنسانيًا معرفيًا، حيث جعلت الإنسان ما قبلها هو ليس ذاته ما بعدها.
افتراض 1
تخيلوا معي أن كل ما تشاهدونه من سيارات، في الطرقات والمدن والأماكن، قد ظهرت بهذا الكم والاتساع بين ليلة وضحاها، قبل وضع قوانين وأعراف وأخلاق السير والقيادة، وقبل التعلم على سياقتها والتنقل بها، ظهرت بهذا الكم والاتساع، قبل تخطيط وتشييد الطرق والجسور والأنفاق والهندسة المرورية، والشارات الضوئية، كم من الضحايا والحوادث والموت والازدحام، سوف يكون…!
افتراض 2
تقول الحكاية: إن رجلًا تعلم قيادة الطائرة على مرحلتين: المرحلة الأولى الإقلاع، والمرحلة الثانية الهبوط! وقرر أن يقود طائرته، ركبها وصعد إلى أعلى، وعندما قرر الهبوط اكتشف أنه لم يتعلم المرحلة الثانية، ولم يمارس الهبوط من قبل، بقي يجوب السماء حتى نفد الوقود وسقط بمن معه حطامًا.
تلك هي السوشيال ميديا التى صعدنا بها ولم نستطع الهبوط بعد، وتلك هي الثورة العظيمة التي انتشرت بسرعة الضوء كزحام السيارات في الافتراض الأول.
شكّل هذا الاتصال العاري من الأسرار، بيوتًا زجاجية شفافة، أصبح من المستحيل الاختباء خلفها، تقشّر الجدار عن طينه وأصبح وهميًا كالفضاء، هلاميًا كأسمائنا، عنيفًا كالطاعون والملاريا قبل ظهور الأمصال.
لـ “الفيس بوك” وعموم السوشيال ميديا ضحايا أكثر من الحروب. ضحايا تهيج على أي معلومة طائشة، وكثيرًا ما تكون المعلومة مختلقة أو مزيفة أو جاهلة! بعض مقيمي ورواد (الفيس) بحاجة إلى رعاية حقيقية، والأخذ بيدهم، وانتشالهم من تسونامي المعلومات غير الصحيحة: ضحايا بما للكلمة من معنى.. ضحايا من كل الفئات، مثقفة، جاهلة، عابرة سبيل… الخ.
غياب التأهيل ومنهج التفكير العلمي، وغياب الأمانة الفكرية والعلمية، جعلهم ضحايا للسحرة والأفاقين والمشعوذين والشبيحة وبائعي التداوي بالأعشاب والخرافات والكذب المؤدلج والتلاعب بالكلمات والمعلومات وتزوير الواقع والوقائع… ضحايا كثافة “اللايك” من أجل عيونها وعيونه.. ضحايا ضحايا، لأن المتلقي بلا سلاح ولا حماية ذاتية، حتى آخرهم وليس آخرًا؛ ضحايا اللغة وسوء الترجمة… الكل مؤلف والقليل القليل قارئ ومتأمل وباحث ومحلل.
هؤلاء الضحايا بحاجة إلى إنشاء مراكز للعلاج والتحليل والدرسات، ودور رعاية كرعاية المسنين تمامًا، وربما أصبحنا بحاجة إلى محو أمية من طراز جديد ومختلف.
ما حصة الفنون بشكل عام، والسينما بشكل خاص، من كوارث الشعبوية التي أنتجتها السوشيال ميديا؟ أعني، كيف سيكافح الفنان من جهة، والفن الذي هو بطبيعته قيمة عليا من جهة أخرى، كيف ستبحث الفنون عن مكانٍ لها، وتتموضع، في مقاومة اختلاط الغث والسمين، الرديء والجمالي، الفن الصارم بشروطه الجمالية والخفة المحتملة وغير المحتملة.
تتشكل شركات إنتاج ضخمة للإنتاج السينمائي والدرامي في العالم، لتستطيع أن تنافس وتنتشر عبر السوشيال ميديا/ يوتيوب، مثل النت فليكس وغيرها الكثير.. هل هذه الشركات، ستعطي بديلًا فنيًا جماليًا لضحايا السوشيال ميديا، وهل ستنتشلهم من دوامة التدفقات الهائلة لكل شيء، وهل ستجعلهم محصنين من ثورة الديجيتال، سهل الاستعمال قي صناعة القصص الدرامية والسينمائية…؟؟
إنه عالم جديد، صنعه العلماء وليس السياسيين فحسب، عالم جديد مركب ومعقد وملتبس، على الفن من جهة، وعلى المتلقي من جهة أخرى. فبسبب الفوضوية الممكنة في النشر والانتشار، أصبحت السينما بشكل خاص، والفنون والأداب بشكل عام، عبئًا على أصحابها، وأصبح هناك تحد حقيقي بين الكم والنوع، في هذه المجالات المتزاحمة، وأصبح المتلقي، يتلقى الضربات المتتالية في مكان معتم، على الرغم من الضوء الشديد.
الأدب والفن في تجلياته القادمة
عشر سنوات من عمر (الفيس)، الفيس النشيط، ملايين “البوستات” إن لم تكن مليارات، تنسكب في هذا المحيط.. كل شيء تم قوله، الكتابة العضوية لا تنضب وخاصة السياسية والتعليقات السريعة، الأزمة ستصيب من يكتب برسم الإبداع، برسم الحياة فلسفيًا وجماليًا.
هنا سيظهر التكرار وتكثر الاقتباسات، لكن الكتابات المقارنة، والفلسفية ربما سيكون حظ عمرها أطول. هذيان القصيدة الأفقية -التي تسمى شعرًا- ستصاب بالتكاثر السرطاني، إذا لم يكن هناك ثقافة موازية جديدة ومختلفة ومبدعة، وعلى صفحات السوشيال ميديا بالذات؛ وذلك كي يحدث القياس والمقارنة من جهة، ويبدأ المتلقي بإدراك الفارق الجمالي؛ وإلا فستكون الأمور صعبة للغاية.
صرخنا أو امتنعنا أو اعترصنا على ما يُكتب في السوشيال ميديا، سوف تتشكل الثقافة المتاحة لجيل حالي وجيل قادم. لذلك، على المبدعين أن لا يتمسكوا بالطرق القديمة، فالكتب أصبحت عبئًا حقيقيًا، كشكل/ (الملزمة والورق أقصد)، عبئًا على كاتبها وقارئها، وعلى الاقتصاد المرتبط بهذا النمط / الورقي.
لا بد من نشوء أدب مختص بالسوشيال ميديا، فني وجمالي، ويختار طرقه وبتشويقاته الجديدة المختلفة، لجيل أصبح موجودًا وهاجرًا للكتاب الورقي، وجيل قادم مختلف وعلى قطيعة تامة مع طرق الماضي، هو والتقدم الخيالي لنشر الأفكار والأشكال والأدوات التي سوف تغريه في تناول المعرفة والجمال. فالإنسان العادي -وربما المثقف- أصبح الآن ضحية من ضحايا السوشيال ميديا، وضحية مصيدة التلفيق الشامل، وهو معرّض -كل لحظة- لخديعة ما، وترويج ما، وأصبح سهم الخبر الطائش المميت، سهمًا صائبًا لهدفه! وضحايا عدم النباهة والبلاهة والخديعة صاروا كثرًا، وأداة لإعادة تدوير الكذب والتزوير! ليس للأخبار السياسية والعسكرية والحروب وحسب، بل أيضًا، أصبح الإنسان البسيط أداة لترويج الخرافات والادعاءات التي تحيل الحجارة إلى طيور، والمرضى إلى أصحاء.. فدخل الحابل بالنابل بمؤخرة الهبيلة.