سلايدرقضايا المجتمع

الموقوف رقم (5)

تلخص الورقة قضية معتقل، تم اعتقاله في أحداث نهر البارد، في لبنان صيف 2007، من قبل أذرع النظام السوري السرية في لبنان، لتحيا القصة من جديد مع بداية الثورة السورية 2011، بعد وصول الناجين من معارك نهر البارد إلى سورية، للمشاركة في الثورة ضد نظام الأسد، إلا أن شخصًا منهم لم يكن موجودًا بسبب استمرار اعتقاله، الأمر الذي دفع شقيق المعتقل إلى المخاطرة بحياته بهدف معرفة مصير أخيه، معرضًا نفسه للاعتقال. ليغدو السؤال الأهم: ما هو مصير المعتقل؟ ومن هو الموقوف رقم (5)؟

اعتمد في هذه الورقة الأسلوب الوصفي للجانب الإنساني والسياسي للقصة، وأهدف من خلالها إلى توثيق القضية كدليل إدانة على جرائم النظام بحق المعتقلين، إلى جانب تعريته للرأي العام.

تتضمن الورقة نبذة عامة عن استراتيجية النظام السوري، في تهيئة الساحتين العراقية واللبنانية لتصفية الفكر الجهادي داخل سورية، والجزء الثاني مخصص لتصوير أحداث القصة وتفاصيلها.

نبذة تمهيدية قبل قضية الاعتقال

لم تكن انتفاضة الشعب السوري بوجه النظام صيف 2011، إلا انفجارًا جمعيًا أمام ممارسات نظام البعث المستمرة منذ أربعة عقود، وقد لاقت أحداث الثمانينيات التي عُرفت بأحداث الإخوان المسلمين استحضارًا للذاكرة السورية في ثورتهم الراهنة، حيث أعادت للأذهان ممارسات النظام بحق شعبه في حماة وإدلب وحلب من تصفيات جماعية واعتقالات باتت لا تُذكر أمام الكم الهائل من الإجرام الماثل أمامنا، كذلك سنحت الفرصة إبان الثورة السورية لأن تفتح سجلات النظام الدموية في لبنان وتصفيته للعديد من الشخصيات السورية واللبنانية المناهضة له، والدور الذي قام به بتصفية منظمة التحرير الفلسطينية، بعد تحالفه مع طهران و”حزب الله”، حيث كان ظهور محور المقاومة والممانعة أحد أهم الأسباب التي تلاقت بها مصلحة النظام السوري مع إيران و”حزب الله” بعد انتصار الثورة الإيرانية 1979م لتكريس حكمه وإحداث توازن في كامل المنطقة، ولعل تآمر النظام على سقوط العراق 2003 كان أحد أهم الأسباب التي فتحت شهيته للتخلص من الجهاديين السوريين، وتنظيف بلاده من الشباب أصحاب النزعات الجهادية نظرًا للخطر الذي كانوا يشكلونه عليه، والذي عمل طوال العقود السابقة على التلاعب بمعتقداتهم بكذبة المقاومة والصمود في وجه “إسرائيل” وتحرير فلسطين، فكان النظام يعي تمامًا حجم اللعبة التي زج نفسه بها، وارتضى لنفسه الارتماء في الحض الإيراني وحماية “إسرائيل”، بهدف البقاء في سدة الحكم، لذا كان يعلم تمامًا أن أي وعي سياسي شعبي يستنهض أنات السوريين ستجعله عرضةً للسقوط الدراماتيكي بشكل مدو وسريع، ولمنع ذلك جعل العراق ولبنان ساحتين لتنظيف الداخل بعد تهيئة شخصيات ورموز دينية داخل سورية أوكلَ لها مهام جذب الشباب السني على وجه الخصوص، لزجهم في محارق دموية تارةً واعتقال البعض منهم تارة أخرى، وبذلك يكون قد ضمن استمراره التحكم بلعبة التوازان في دول الجوار الإقليمي.

أحداث لبنان (2006 – 2007)

صيف 2006، خرج محمد البالغ من العمر 21 عامًا من منزله الواقع في أحد أحياء مدينة حلب متوجهًا إلى المسجد لأداء صلاة العشاء، لم تظهر عليه أي ملامح غريبة تثير الشكوك لبقية أفراد عائلته، كونه كان يقوم بهذا السلوك كل يوم، خرج محمد ولم يعد منذ ذلك الحين.

محمد الشاب الطموح ترعرع في مساجد حلب على أيدي أهل العلم، واستزاد منهم في علوم القرآن والسنّة، حظي بشعبية كبيرة عمّت كل أرجاء حلب المدينة، عُرف عنه حسن الخلق والتواضع والشجاعة والكرم والزهد في الدنيا، كان أبوه مدرسًا للغة العربية في إحدى مدارس حلب، وأمه ربة منزل.

أثار غياب محمد صدمة كبيرة على مستوى الأسرة والأصدقاء، فتلك هي المرة الأولى التي لا يعلم أحد أين هو وأين مكانه، ولم تكن للأسرة أي خلفيات مرتبطة بالنظام السوري الذي كان منشغلًا في شيطنه مدينة حلب بصناعة أبو القعقاع (محمود قول آغاسي)، وشاكر العبسي (زعيم تنظيم المجاهدين في لبنان). وبعد بحث استمر لأكثر عام، استطاع شقيق محمد (20 عامًا) أن يحصل على معلومات سرية من أحد أصدقائه المقربين له تفيد بتوجه محمد نحو لبنان بهدف نشر الدعوة والجهاد، وأنه قد خرج خفية من مدينة حلب مع مجموعة من السوريين متوجهين إلى لبنان، ومع مزيد من التقصي والبحث، استطاع الأخ الصغير الملقب بأبي العباس أن يحصل على معلومات دقيقة عن وجود أخيه بإحدى مخيمات لبنان، وبالتحديد مخيم عين الحلوة ونهر البارد.

على عجل عزم (أبو العباس) السفر إلى لبنان سرًا، من دون علم أحد، وقد أخبر أبويه أنه مسافر برحلة سياحية مع بعض أصدقائه إلى الساحل السوري، وبالفعل استقّل حافلة متوجهة إلى لبنان ليحط بظرف ساعات في طرابلس اللبنانية من دون أن يكون لديه أي علم مسبق بالمنطقة، لكنه كان يعلم وجهته نحو مخيم عين الحولة الواقع في جنوب لبنان ضمن مدينة صيدا الساحلية، والذي يقطنه 80 ألف نسمة ومعظم ساكنيه من نازحي عرب 48 من قرى الجليل في شمال فلسطين.

وسط أجواء ضبابية صيف 2006، في طرابلس اللبنانية، استوقف أبا العباس، شابٌّ فلسطيني يعمل على سيارة أجرة وسأله إلى أن تريد الذهاب، تردد أبو العباس وتلعثم بكلامه لدرجة أثار شكوك السائق تجاهه، فأجابه: أريد الذهاب إلى مخيم عين الحلوة بدعوى العمل، تبسم السائق قليلًا وقال: هل تعلم إلى أين أنت ذاهب يا فتى… فهذا المخيم محاط من جميع جوانبه بالحواجز اللبنانية، ولا يدخل إليه أي إنسان إلا بتصريح رسمي من قبل السلطات اللبنانية، وكان السائق كان قد علم غاية أبي العباس، على اعتبار أنه يعمل على خط التهريب؟ مع ذلك قال له أستطيع أن أوصلك إلى المخيم مقابل مبلغ قدره 5000 ليرة سورية، كان أبو العباس متجهزًا للرحلة ومستعدًا للمغامرة، وقد اصطحب معه مبلغًا بقيمة 25 ألفًا سورية، فصعد للسيارة وعند أبواب المخيم توقف السائق وعرض عليه عرضًا آخر، قائلًا له: إذا أردت فإن باستطاعتي إدخالك للمخيم لكن بمقابل 2000 ليرة سورية، قبل أبو العباس ذلك من دون أي اهتمام لمخاطر الرحلة، وبالفعل استطاع السائق المتعامل مع حاجز المخيم إدخال أبي العباس، وأنزله في الساحة الرئيسية للمخيم. وعقب مغادرة السائق مضى أبو العباس بعملية البحث حاملًا بجيبه صورة أخيه، وأول ما خطر في علقه الذهاب إلى الجامع، حيث المكان الأول المتوقع لرؤية أخيه، وبعد انقضاء الصلاة توجه إلى الإمام بالسؤال عنه، وبعد أن تمعن الإمام بالصورة، قال له هذا الشخص كان هنا منذ بضعة أيام، ولكنه لم يعد هنا، تفاجأ أبو العباس من كلام الشيخ ، فسأله مرة أخرى: أين يمكن أن أجده، فأجابه ربما يكون في مخيم نهر البارد الواقع في شمال لبنان، بالقرب من ميناء مدينة طرابلس، وكان يضم حوالي 30000 فلسطيني وأنشأ المخيمَ بالأساس جمعياتُ الصليب الأحمر عام 1949.

خرج أبو العباس بخطوات متسارعة متأملًا لقاء أخيه، لكنه تفاجئ أنه لا يستطيع الخروج من مخيم عين الحلوة، لكونه دخل إليه من غير تصريح، وعند مروره بالسوق الرئيسي تفاجأ ببائع للأحذية يتكلم اللهجة السورية، فقدم إليه وسأله يا عمّ بكم هذه القطعة، فرد عليه: وهل أنت سوري؟ فأجاب أبو العباس نعم، ولعل التساؤل نابع من قاعدة عامة أن جميع من في المخيم يعرفون بعضهم البعض، لذا فالغريب دائمًا يكون عرضة الآخرين. أدخل البائع أبا العباس داخل الدكان، وأحضر له كأسًا من الشاي ثم أعطاه الأمان وأبلغه أنه في مكان غير آمن؛ فالمخيم كان يجمع مكاتب لحماس وفتح ومقاتلين، والسلاح منتشر بكثرة بين العامة، والتصفيات والقتل هي أمور اعتيادية، عند هذا المطاف أخبر أبو العباس عن سبب قدومه لابن بلده، وقال له عليه أن عليه الذهاب لمخيم نهر البارد للقاء أخيه، وإنه لا يستطيع الخروج من غير تصريح، فطلب البائع منه المكوث هذه الليلة في المخيم، ريثما يجد له طريقة يخرجه من المخيم، صبيحة اليوم الثاني قدمت سيارة حاملة ركاب فطلب البائع من أبي العباس الصعود للخروج إلى خارج المخيم، كانت الفطرة هي المتحكمة بأبي العباس فصعد على الفور، وعند مدخل المخيم، توقفت الحافلة وبدأ التفتيش وأمر الضابط بإظهار التصاريح، حينها توقع أبو العباس أنه لن يتم التطرق إليه، بسبب ترتيب الأمر بينه وبين بائع الأحذية مع سائق السيارة، لكن الأمر كان بعكس ذلك، فقد طلب الضابط من أبي العباس التصريح، فأجابه أنه فقده داخل المخيم، فطلب منه النزول وأمر سائق الحافلة بالذهاب، وعند هذا المطاف توقع أبو العباس نهاية أمره بعد أن اعتقله الضابط، ووضعه في بادئ الأمر في غرفة منفردة بعد مصادرة أغراضه الشخصية، مدة ثلاث ساعات، ليدخل عليه بعد ذلك ضابط آخر ويطلب منه نزع ملابسه باستثناء الداخلية، ليبدأ مسلس التحقيق بتوجيه العديد من الأسئلة التي تتمحور حول سبب القدوم والغاية وكيفية دخوله من غير تصريح؟ لم تكن الأجوبة التي قدمها أبو العباس مقنعةً، أنه دخل بحافلة نظامية ولم يعلم بموضوع التصريح وأن شخصًا قد أبلغه ذلك دون علمه من هو، وأنه جاء بهدف البحث عن عمل لأن المعيشة في المخيم متوسطة، مقارنة مع العاصمة اللبنانية بيروت. استمر التعذيب والتحقيق ثلاثة أيام، ليأتي أمر الإفراج من دون معرفة السبب، حينها توجه بعدها أبو العباس إلى شمال لبنان وبالتحديد إلى مخيم نهر البارد.

وقبل وصوله أعتاب المخيم، رن هاتفه الجوال، وظهر رقم خاص لتكون المفاجأة أن المتصل هو أخوه محمد والذي قد علم بمجيئه إلى لبنان من قبل أصحابه الذين أخبروه من داخل مخيم عن الحولة أن شقيقه قدم من سورية باحثًا عنه، كانت المفاجئة صادمة باتصال جاء بعد عام، ودارت المحادثة بين الأخوين بعتاب وألم، فطلب محمد من أخيه الانتظار قليلًا عند باب المخيم، وأرسل له سيارة خرجت من داخل المخيم ودون أي مضايقة من العناصر الواقفين عند الحاجز، وقفت السيارة عند أقدام أبي العباس، فُتحت النافذة فسأله شخص: أنت أبو العباس؟ فأجاب نعم، فقال له: اصعد. فصعد من دون تردد واتجهت السيارة إلى المخيم وتوقفت في ساحة عامة في آخرها منزل، وطُلب من أبي العباس الدخول للمنزل والانتظار وبعد مضي نصف ساعة، دخل رجل من الباب وإذ به محمد، حاملًا سلاحه بين يديه وضعه جانيًا وعانق أخاه ودموعه انهالت كالسيل الجارف، فدار حديث استمر ثلاث ساعات ببن الأخوين، وحاول أبو العباس إقناع أخيه بالعودة إلى سورية للقاء أمه المريضة وأبيه المتشوق لرؤيته لكنه تفاجأ بموقف صادم إذ رفض محمد العودة لأسباب لم يفصح عنها، وطلب من أخيه العودة إلى سورية وتبليغ سلامه لأبويه مع تحميله رسالة مفادها أنه سيعود عندما ينتهي عمله.

صبيحة اليوم الثاني، غادر أبو العباس المخيم خائب الرجاء، واتجه إلى بيروت ثم إلى سورية، والتقى بأبيه وأخبره بتفاصيل الرحلة، فعزم الأب في اليوم التالي على الذهاب بنفسه للمخيم بصحبة والدته وأبي العباس، وتم اللقاء بين الأب وابنه، ودار الحديث مدة عشر ساعات، حاول فيه الأب إقناع ابنه العودة إلى منزله، لكنه رفض، فغضب الأب وعاد أدراجه للوطن إلى جانب انكسار قلب أمه التي غصت بدموعها من غرابة المشهد، وبعد أسبوع واحد، تسارعت الأحداث واقتحم الجيش اللبناني المخيم وأنهى كل الحركات الجهادية، فعزم الأب على الرحيل بمفرده هذه المرة للبحث عن ابنه، فانطلق في الأيام الأوائل من شهر رمضان 2007، واستمر غيابه حتى أواخر شهر رمضان ليعود بعد ذلك بخفي حنين، وعند دخوله باب المنزل سألته زوجته: أين محمد؟ فأجاب وما هو رقمه؟

واتضح أن الأب قد تم استدراجه من رجل استخبارات فلسطيني متعاون مع جهاز الاستخبارات اللبناني المتعاونة هي الأخرى مع المخابرات السورية، اعتقلت الأب لمدة 25 يومًا، مع رحلة مريرة من العذاب والتنكيل والتحقيق، ولولا أنه متقدم في السن لكان محتجزًا حتى الآن أو سيلقى مصيرًا مشابهًا مع الذين تم تسلميهم للمخابرات السورية آنذاك.

وقد علمت بقية الأسرة من خلال سرد الأب تفاصيل رحلته أنه تحول من مدرّس أجيال إلى مجرد رقم (5) وهي لوحة علقت على صدره، كحال بقية الأشخاص الذين كانوا معه في نفس الزنزانة، وختم حديثه أنني خسرت ولدي ولا أريد بعد اليوم أن أخسر المزيد.

وعلى الرغم من إغلاق الملف في لبنان، فإنه كان بداية لمسيرة جديدة لدى الأجهزة الأمنية السورية التي استدعت كامل أفراد العائلة للتحقيق لتدخل العائلة متاهة أخرى، ورحلة إذلال لم تنتهِ إلا مع شرارة الثورة السورية في 2011، مع التنبيه إلى أنه طوال تلك المدة (ما بين 2007 إلى 2011) لم يتوفر أي خبر عن محمد، لدرجة أن عائلته اعتقدت أنه أصبح في عداد الموتى.

لكن رياح الثورة السورية أحيت بذور القضية من جديد، على أيدي من كتب لهم القدر الفرار ليلة الاقتحام الأخير في مخيم نهر البارد، والذين جاؤوا سرًا إلى سورية للمشاركة في مسير الحراك الشعبي، وحملوا البنادق مع فصائل الجيش الحر لمواجهة أجهزة الأسد العسكرية.

وكأي شاب ذاق الأمرين من نظام الاستبداد، كان أبو العباس من أحد الشباب الذين مشوا بخطوات الحرية، وبفعل القدر التقى أبو العباس مع مقاتلين بأحد أحياء حلب، ومن خلال تبادل أطراف الحديث تبيّن أنهم ممن استطاعوا الفرار من معركة نهر البارد، وأتوا إلى سورية للمشاركة في الثورة السورية والانتقام من نظام الأسد، تعجب أبو العباس، وكأن صاعقة قد أنزلت عليه، فسألهم على الفور عن أخيه محمد الملقب بأبي دجانة، فأجابوا: نعم، كان معنا لكن أجهزة الأمن اعتقلته، وعلمنا بعد ذلك من خلال عملائنا أن المخابرات اللبنانية سلمته للنظام السوري، فسألتهم: هل تعلمون ما هو رقمه؟

حتى تاريخ كتابة هذه السطور، ما زال محمد معتقلًا داخل أقبية النظام السوري، ولا أحد يعلم أما يزال حيًا أم استشهد.

_____

(*) من المواضيع المشاركة في مسابقة (حسين العودات للصحافة العربية – 2019).

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق