بالتزامن مع استلام تركيا الدفعة الأولى من منظومة S400 الروسية، أعلنت عن تأهبها لمرحلة جديدة في شرق الفرات لإنهاء ملفات عالقة متعلقة باتفاق منبج المُجمد منذ حزيران/ يونيو 2018، وبلدة تل أبيض الاستراتيجية، وتل رفعت، وبعد عودة الاتصالات التركية الأميركية الأخيرة، بملف المنطقة الآمنة، تحركت تركيا عسكريًا، وأرسلت تعزيزات جديدة إلى المناطق المتاخمة لتل أبيض ورأس العين، شمال مدينة الرقة، ونفذت المدفعية التركية هجمات على مواقع تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي في ريف حلب الشمالي، حيث تركّز القصف على محوري بلدة منغ وقرية عين دقنة في ناحية تل رفعت، بريف حلب الشمالي، الأمر الذي دفع التحالف الدولي إلى تسيير دوريات مكثفة في محيط مدينة منبج، وعلى طول نهر الساجور عقب تصريحات أردوغان عن المنطقة الآمنة في شمال سورية.
ونقلت وكالة (الأناضول) أن تركيا تستعد لتنفيذ مرحلة جديدة، في محيط مدينة منبج وتل رفعت وتل أبيض، بهدف طرد (قوات سوريا الديمقراطية)، الذراع العسكري لحزب العمال الكردستاني، المصنّف لديها على قوائم الإرهاب. وكانت وزارة الدفاع التركية أعلنت 13 تموز/ يوليو الحالي، على لسان وزير الدفاع خلوصي أكار، التوصل إلى اتفاق مع القائم بأعمال وزير الدفاع الأميركي مارك أسبر، على ضرورة إرسال فريق عسكري أميركي إلى أنقرة، لبحث إقامة منطقة آمنة في سورية، كما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان 14 تموز/ يوليو الحالي، أنه أبلغ زعماء روسيا والولايات المتحدة وألمانيا، إبان لقائهم على هامش قمة العشرين، بضرورة دعمهم لجهود تركيا في إنشاء المنطقة الآمنة، وشدد على ضرورة أن تصل المنطقة إلى عمق 30 إلى 40 كم داخل الأراضي السورية، وهذا يعني أن مناطق تل أبيض ورأس العين وعين العرب (كوباني) ومنبج وتل رفعت والقامشلي، سيكونون ضمن النطاق الحيوي لتركيا.
وشدد أردوغان على ضرورة تطبيق اتفاق منبج، متهمًا الولايات المتحدة بعدم التزامها بتنفيذ وعودها، وأضاف الرئيس أن العرب هم أصحاب منبج، ويجب أن يعودوا إليها بأسرع وقت، والكلام ذاته ينطبق على تل أبيض، حيث تم تهجير أكثر 250 ألف من أبناء المنطقة من قبل “قوات سوريا الديمقراطية” في 2015. وتُولي تركيا اهتمامًا كبيرًا لتل أبيض لكونها تشكل أحد أهم البلدات التابعة لمدينة الرقة، حيث تصل بين العراق وسورية وتركيا، فضلًا عن توسط التل لمنطقة كوباني والجزيرة، كما أنها تُشكل خطًا فاصلًا مع مناطق تواجد فصائل المعارضة، لذا تتمسك “قوات سورية الديمقراطية” بها بهدف توحيد مناطق الإدارة الذاتية، ولنفس السبب تُصرّ تركيا على طرد قسد منها بالإضافة إلى منبج، لأن ذلك يعني قطع العلاقات والتواصل بين الأحزاب الكردية في شمالي سورية والعراق، وحيال تحقق ذلك فإن تركيا ستستحوذ على مساحة بعمق 20 ميل من حدودها الجنوبية مع سورية.
أسباب التحرك التركي
تعكس التحركات التركية الأخيرة نيّة أنقرة إنهاء موضوع المنطقة الآمنة، التي بدأت تعود للواجهة بعد أشهر من إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قرار سحب قواته من سورية، حيث اتفق الطرفان، عبر مكالمة أجراها ترامب مع أردوغان أواخر شباط/ يناير الماضي، على إنشاء مجموعات عمل مشتركة ثلاثية لترتيب عملية الانسحاب الأميركي من سورية، وتوكيل أنقرة مهمة ملاحقة بؤر تنظيم الدولة (داعش)، مقابل دعم أنقرة في إنشاء منطقة آمنة، لكن الجهود آنذاك حالت دون أي تقدم يُذكر، بعد تراجع ترامب عن الانسحاب من سورية، بفعل ضغط من مؤسسات الكونغرس ووزارة الدفاع الأميركية، بالإضافة إلى محاولة روسيا عرقلة تحقيق تلك الجهود، لاستشعارها أن الصفقة ستكون على حسابها، فتمّ ترحيل جميع الملفات بعد عودة التسخين في معارك حماة وسهل الغاب، التي انتهت مبدئيًا في منع موسكو من انتزاع مكاسب عسكرية على حساب مصالح أنقرة، وتم تثبيت المناطق التي تقدمت إليها فصائل المعارضة بعد هدوء الجبهات وعودة طرفي الصراع إلى خط الدبلوماسية حفاظًا على اتفاق سوتشي ومسار أستانا.
سمحت الأجواء الأخيرة بعودة التنسيق والاتصالات التركية الأميركية، وبخاصة بعد عدة زيارات متواصلة حتى الآن، لبحث موضوع المنطقة الآمنة، وتعمل واشنطن على تطبيق صيغة تشاركية تضمن من خلالها عودة الاستقرار إلى منطقة شرق سورية، بدعم من قبل الحلفاء المحليين “قوات سوريا الديمقراطية”، حيث ترغب في مشاركتهم في مشروع المنطقة الآمنة، إلى جانب الدعم المقدم من قبل حلفائها الأوروبيين، بعد موافقتهم على إرسال قوات إضافية إلى سورية، باستثناء ألمانيا التي عارضت الطلب لاعتبارات تتعلق بالمصالح القومية العليا لألمانيا. وجرى أخيرًا استقطاب أميركي لزعماء العشائر وإعطائهم وعودًا مستقبلية في إدارة المنطقة، على أن تكون المرجعية السياسية لـ “قوات سوريا الديمقراطية” في غالبية المناطق المتواجدة فيها، وتهدف واشنطن من تلك العملية إلى تبريد مخاوف تركيا على أمنها القومي، ولعل ما كشفت عنه صحيفة (واشنطن بوست) عن رغبة إدارة ترامب في تحييد مقاتلي “وحدات حماية الشعب”، وسحبهم من منطقة منبج، دليل على أن واشنطن تسعى للحفاظ على الشريك التركي، ولا ترغب في انجراره أكثر نحو روسيا، كما أن تقبّل إدارة ترامب شراء تركيا منظومة الدفاع الروسية، أعطى اللاعب التركي مؤشرًا إيجابيًا للحفاظ على مسار العلاقات مع إدارة ترامب، مع ذلك يعدّ هذا التناغم غير كاف مع وجود مؤسسات داخل الولايات المتحدة تُعارض توجهات الرئيس الأميركي، فموضوع تسيير دوريات في محيط منبج جاء من قِبل التحالف الدولي ضد (داعش)، الذي اعترض سابقًا على قرار سحب ترامب القوات الأميركية من سورية. وبناء عليه فإن الطريق أمام تركيا يُعدّ معقّد ومليء بالألغام، فمن الصعوبة بمكان أن تنجح أنقرة في إرضاء كل المؤسسات المتصارعة داخل أميركا، وموضوع إنشاء المنطقة الآمنة، ليس وليد اللحظة، فقد تم رفضها سابقًا من قبل إدارة أوباما، ومع مجيء ترامب تم إعادة طرحها وقُدّمت عدة مشاريع، من بينها مشروع أحمد الجربا، ومشروع خاص بالعشائر، وآخر من قبل (الجيش الحر)، لكن جميعها تم تمييعها أو رفضها، في ظل تعارض الأولويات وتداخل المصالح بين اللاعبين. كل ذلك دفع تركيا إلى إجراء ضربة استباقية ورفع الجاهزية في المنطقة بعد إرسال التعزيزات الأخيرة، لممارسة قوة ناعمة ضاغطة على الدوائر المغلقة الأميركية، التي تتأهب لفرض عقوبات عليها بعد صفقة S400.
سبب آخر يشير إلى سبب التحرك التركي، مفاده أن تركيا تريد أن تفرض نفسها قبل أي لاعب آخر، كرقم صعب لا يمكن تجاوزه في موضوع ترتيب شرق الفرات، وبخاصة أن إيران وأميركا والنظام وروسيا يتنافسون على استمالة أبناء المنطقة لتمرير مصالحهم وتثبيتها، وتركيا ترى أنها الأحق من غيرها بذلك، بحكم القرب الجغرافي، وبعد استشعارها حساسية الموضوع في اقتراب تغيرات جذرية بذريعة تحجيم النفوذ الإيراني، وقد ينتج عن ذلك فرض وضع جديد لا يناسب تطلعاتها الخاصة في حماية أمنها القومي، ودليل ذلك أن الرواية التركية لموضوع المنطقة الآمنة حتى الآن لم يتم الاتفاق على صياغة نهائية لها، بعد رفض روسي وتجاهل أميركي عدة مرات، لذلك تبقى القوة العسكرية هي الأداة السياسة الضاغطة لتركيا، بشكل لا يثير حفيظة ترامب، ولا يقودها إلى تدخل فردي.
الهدف والتداعيات
تركيا تعلم تمامًا أنها غير قادرة على إجراء حركة عسكرية فردية في منطقة توجد فيها قوات لعدة دول أجنبية، لأن ذلك قد يقود إلى إشعال المنطقة والدخول في حروب لا نهاية لها، بحسب ما قال العميد أحمد رحال لـ (جيرون).
وأضاف رحال أن “المنطقة الشمالية والشرقية السورية تخضع لصراع نفوذ، حيث هناك خلاف روسي تركي في حماة وإدلب، وصراع روسي تركي في تل رفعت، حول مصير المنطقة، فتركيا عندما أرادت التحرك سابقًا نحو تل رفعت، تحركت موسكو ووضعت ثلاث نقاط مراقبة، لدعم الأكراد وقطعت الطريق على تركيا”.
أما المنطقة الآمنة فهي تخضع لصراع أميركي تركي روسي، لذا فإن عملية الحشود لا تعني بالضرورة أن هناك حربًا، فهي تأتي إما لتدعيم جبهات معينة أو لفرض ضغوط معينة على الطرف المقابل، وأعتقد أن تركيا ليست في موقف ضعف عسكري يمنعها من شن حروب، سواء في تل رفعت أو منبج أو شرق الفرات، لكن هناك موازين قوى تأخذها تركيا بعين الاعتبار، وعليه فإن أي عمل عسكري يجب أن يكون بالتوافق، وبالنسبة إلى مصير تل رفعت، فهي محصورة باتفاق بين روسيا وتركيا، سواء بالعمل العسكري أو السياسي. أما في شرق الفرات فهي تخضع لتوافقات أميركية تركية، ولن تُقدم تركيا على شن عمل عسكري إلا بضوء أخضر وتوافق مشترك، على غرار ما حدث في معارك حماة، حيث أعطت أميركا الضوء الأخضر لتركيا في تقديم الدعم لفصائل (الجيش الحر).
أخيرًا، تبقى التفاهمات أعلى من القدرات العسكرية، ولن يكون هناك عمل عسكري في شرق الفرات إلا بتوافق أميركي روسي مع تركيا، معبرًا أن “الأمور تتجه نحو التهدئة لا التصعيد، كون الملف السوري وصل إلى مرحلة النهايات، والجميع الآن ليس بصدد إشعال حروب جديدة في المنطقة”.