انتابت المعارضين السوريين، هذا الشهر، حالة من الارتباك، سبّبتها مواقف بعض دول الجوار من اللاجئين السوريين فيها، ولم يستطع كثير من السوريين فَهم ما يجري حولهم، بسبب تذبذب وضبابية وتبدّل مواقف هذه الدول تجاه من لجأ إليها هربًا من الحرب، كما لم يستطع أحد تقديم مبرر واضح عن توقيت هذه المواقف، وساهم في ازدياد حالة الارتباك ظهورُ كثير من الشائعات والمبالغات والتشاؤم، الذي تلبّس الحلقات الأضعف معرفيًا في المجتمع السوري.
خلال شهر واحد، شهد السوريون مواقف عنصرية طاردة مجحفة من قبل اللبنانيين بحق اللاجئين السوريين، مواقف لم يألفوها بهذا التعميم من قبل، كما شهدوا موقفًا تركيًا ضد اللاجئين السوريين على أكثر من مستوى، لم يتوقعوه ولم يتخيلوا أن يحصل في وقت سابق، وكذلك شهدوا مواقف سلبية من سوريين ساهمت في تأجيج التشاؤم، ولو تابعها أصحاب القرار في دول الجوار، لربما زادت مواقفهم تصلبًا، وعلت رغبتهم في طرد اللاجئين السوريين من بلادهم.
يعيش في لبنان نحو مليونٍ من السوريين، وفي تركيا أكثر من ثلاثة ملايين، دفعت الحرب وجور السلطة وعنف النظام الغالبيةَ العظمى منهم إلى اللجوء إليها، هربًا نحو أي برّ أمان يقدرون عليه، حالهم كحال الملايين التي لجأت إلى دول أوروبية وعربية أخرى.
الغالبية العظمى من هذه الملايين خرجت لتعود، ولم تكن تُخطط للبقاء بعيدًا من أرض الوطن، كان لجوؤها مؤقتًا على أمل أن يتوقف عنف النظام، ويرضخ لمطالب الشعب بالتغيير، أو أن يسقط بضغوط داخلية أو دولية، وكان حلم الجميع أن تضع الحرب أوزارها، وتعود كل تلك الجحافل إلى ديارها، وإن كانت مدمّرة.
غالبية اللاجئين السوريين ينشدون الأمان والكرامة في دول لجوئهم، ويسعون لذلك عبر العمل والاقتناع بالحد الأدنى من الحقوق، والرضا “بما كتب الله لهم”، ويحاولون احترام تقاليد مضيفيهم. ومثل كل مجتمع، لا بد من أن يكون هناك شريحة من الحمقى، ممن لا تعني لهم القوانين شيئًا، ويرون في اللجوء فرصة للانفلات والكسب والظهور.
لم يلجأ الغالبية العظمى من السوريون إلى بلاد الله الواسعة، بسبب الجوع، ولم يهاجروا لسبب اقتصادي، ولم يكن خروجهم طوعيًا بل إجباريًا، على اختلاف الأسباب والدوافع، وكلها تتمحور حول عنف النظام وساديّته وحربه العشوائية وحقده.
صحيح أن لدول الجوار الحق في سن القوانين التي تشاء لتنظيم أوضاع اللاجئين فيها، وصحيح أن من الواجب تفهّم أن المصالح الوطنية والقومية تطغى على مصالح اللاجئين، وصحيح أن للدول سياساتها التي تضعها بما يتناسب مع استراتيجياتها، لكن في موضوع اللاجئين السوريين، لا بدّ من الانتباه إلى أمرين أساسيين، تسببا -ربما مع أمور أخرى- في ما وصل إليه السوريون من قلق وعدم استقرار.
الأمر الأول يتعلق بالمعارضة، التي كانت قصيرة نظر، ذاتية، لا يعنيها كثيرًا همّ تلك الملايين، ولم تمنحهم ما يجب أن تمنحهم إياه من اهتمام سياسي وإعلامي وتوعوي ومعرفي، ولم تستطع خلال ثماني سنوات أن تضع استراتيجية واضحة للدفاع عن اللاجئين في دول العالم، ولم تضع ثقلًا سياسيًا لخدمة هذه القضية، ولم تستفد من خبرات السوريين التكنوقراط، لتحصيل شروط إنسانية معقولة منطقية لتلك الملايين في دول استقرارها، وتعاملت باستخفاف، وكأن الأمر لا يعنيها إلا بقدر ما يمكن أن تستفيد منه إعلاميًا وإعلانيًا.
أما الأمر الثاني، فيتعلق بطبيعة الحال بالنظام السوري، الذي انتهج سياسة مبرمجة طاردة للبشر، وفتح أبواب الهروب بداية للمعارضين السوريين، الذين كان يعرف أنهم سيفيدونه في الخارج بسبب قلة خبرتهم السياسية، أكثر مما يمكن أن يزعجوه بمشاغباتهم وهم في الداخل، ومن بعدها استخدم كل أساليب العنف والجريمة لـ “تطفيش” البشر من سورية، ووضع الملايين أمام خيار الموت أو الهروب، وهدفه من وراء خطته المقصودة إخلاء سورية من الحواضن الشعبية التي لا ترغب فيه، وإجراء تغييرات ديموغرافية تناسبه، وجعل سورية “منسجمة”، كما أراد رأس النظام وزبانيته.
مشكلة ملايين اللاجئين السوريين لا يمكن أن تُحلّ إلا بإيجاد مسارات أفضل للأمرين السابقين، أي أن تعود المعارضة السورية للتعامل مع ملف اللاجئين بجدية وحرفية ووعي، وأن تستغلّ كل المتاح حقوقيًا وقانونيًا، لتحقيق شروط أفضل لهم، وأن تقوم بحملات سياسية – إعلامية واضحة ومحترفة، يمكن أن توصل إلى نتائج ما، وأن تعرف اللاجئين بحقوقهم وواجباتهم، وتسعى لزيادة الحقوق بدبلوماسية حصيفة.
وكذلك أن يعمل السوريون بكل الوسائل، لتوضيح حقيقة النظام السوري، وكشف سياسته المنهجية في التهجير والتغيير الديموغرافي، داخليًا وخارجيًا، وأن يؤكدوا لمسؤولي دول الجوار والمجتمع الدولي، وللمنظمات والمؤسسات والجمعيات التي تتعامل معهم، أن قضيتهم ستبقى مُعلقة دون إيجاد حل سياسي يُنهي هذا النظام، مباشرة أو بالتدريج، وأن مأساة اللجوء لن تنتهي إلا بانتهاء مسبباتها، وأن يُذكّروا العالم أجمع بأن أهداف ثورتهم الأساسية، الحرية والكرامة والديمقراطية والمواطنة، وتحققها هو الشيء الوحيد الذي يضمن عودة اللاجئين إلى ديارهم لإعمارها.