منذ أشهر، تواصَل معي أحد أقاربي من مدينة حديثة العراقية، وأطلعني على شجرة عائلتنا التي تعود إلى ما قبل ثلاثمئة سنة تقريبًا، وثيقة من هنا ووثيقة من هناك، حتى تجمّع نسب عائلي. لن أقول إني فوجئت بأصولي العراقية، فهذه حقيقة كنت أعلمها منذ ولادتي، وربما يعرف كثير من أبناء المنطقة الشرقية حقائق مشابهة، فهم يستطيعون التأكيد أن لهم أقرباء هناك، في مناطق مختلفة من العراق، بل إن عائلات كثيرة تحمل أسماء مدن عراقية (الإبادة الاجتماعية البوكمال نموذجًا – جيرون 22 نيسان/ أبريل 2019) لكن أن يكون الأمر موثّقًا بهذه الطريقة المحكمة، فهذا كان جديدًا بالنسبة إلي، وقد وضعني فجأة أمام سؤال صادم: إذا كنتُ عراقيًا إلى هذه الدرجة، إذًا ما علاقتي بسورية وما يحدث فيها من اختلافات وخلافات بين مكوناتها المختلفة؟ فلأكن عراقيًا وأردد، كما يفعل الكثيرون، أنا كذا من أصول عراقية. خاصة أنني الآن، كما ملايين السوريين، غيرُ قادر على العودة إلى سورية، بل إن جنسيتي نفسها محكومة بإرادة النظام الحاكم الذي يستطيع -إن شاء- نزعها عني، إن وجد أني لا أستحق تلك “المكرمة”، لكن.
ألا يعيش العراق، منذ عقود، تمزيقًا وخرابًا كالذي تعيشه سورية، وسيكون لزامًا عليّ أن أختار طرفًا أنحاز إليه، لأسباب عشائرية أو طائفية أو قومية، تمامًا كما يفعل ملايين السوريين والعراقيين؟ والحال نفسه في الكثير من أقطار الشرق المحكومة بالديكتاتورية، والقابلة للانفجار والتمزق، على أيدي أنظمةٍ مستبدة، في حال قررت تلك الشعوب البحث عن حريتها، لذلك ليس مهمًا إلى أيّ قطر تنتمي، المهم ما الذي يعنيه ذلك الانتماء، ثم أنت أصلًا تبحث عن جنسية بديلة، تمنحك حقك الإنساني، وتصون “كرامتك” المهدورة، التي لا يوفرها لك مجرد قولك إنك سوري أو عراقي أو مصري أو أردني، ولا يوفرها لك أيضًا قولك إنك عربي أو كوردي أو أشوري أو مسلم أو مسيحي أو درزي… والقائمة تطول.
شهدت السنوات الأخيرة موجات هجرة غير مسبوقة، قالت الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى إنها الأكبر في العصر الحديث، وقد حملت تلك الموجات سوريين وعراقيين ويمنيين ومصريين، وسواهم. كثيرون منهم، فور وصولهم إلى أرض “الميعاد”، صاروا يسألون عن كيفية الحصول على جنسية تلك البلدان، التي وجدوا فيها ما لم يجدوه في بلدانهم الأصلية، التي يمتلكون فيها شجرة عائلة تمتد إلى مئات السنين. مستقبلًا سيظهر جيل أوروبي يعرف أنه من أصول سورية، تمامًا كما سيظهر جيل سوري يعرف لاحقًا أنه من أصول أفغانية مثلًا، بحسب تقارير صحفية غير موثقة، فقد منح النظام السوري الجنسية السورية لمئات المقاتلين الأجانب.
طُرحت خلال السنوات الفارطات عشرات المشاريع السياسية، للوصول إلى حل لـ “الأزمة السورية”، وبطبيعة الحال ذهبت جميعها أدراج الرياح، ولم يتجسد منها أي ملمح على أرض الواقع، بما فيها تلك المشاريع التي تمت برعاية الأمم المتحدة نفسها، لكن، لم يتسن للسوريين طرح مشروع ثقافي، معرفي يبحث في معنى هويتهم ومعنى انتمائهم الوطني الذي تعرض لما تعرّض له، حتى المؤسسات التي تضع على كاهلها، أو هكذا تدعي على الأقل، إيجاد أواصر تقارب بين السوريين المتناحرين، تلجأ إلى السياسة، وكأنها الحامل الوحيد الذي يمكن البناء عليه، رغم أن السياسة أثبتت فشلها، وأن الثورة، وهذا أمرٌ مهم جدًا التنبيه إليه، لم تكن ثورة سياسية، بل كانت ثورة اجتماعية، وكان نظام دمشق أول من سيّس الثورة، حين اعتبرها مؤامرة تستهدف ضرب نظام المقاومة، وتخدم المشروع الأميركي الصهيوني في المنطقة، بحسب المصطلح الذي استخدم منذ البدايات وما زال مستخدمًا حتى اليوم.
لكن لماذا تتوارد إلى الذهن مثل هذه الأفكار، ونحن في خضم صراعات لا تنتهي، وحروب لا تكاد تتوقف إحداها حتى تنطلق أخرى، فالأرض السورية، منذ ثلاث سنوات على الأقل، تحولت إلى أرض خصومات وحل نزاعات بين دول مختلفة، ولم تعد مشروعًا لدولة قائمة بذاتها. فماذا إن كان الحل النهائي الذي قد يصل إليه اللاعبون، لإنهاء الصراعات، هو إقامة حدود بين مناطق النزاع، وهو مقترح قيل إنه وضع عام 2015 على طاولة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، أي تفكيك سورية إلى دويلات، ترفع كل منها علمًا، وربما تتخذ اسمًا جديدًا، ما بين الجمهورية العربية السورية، أي سورية المفيدة، كما أطلق عليها رأس النظام، وجمهورية سورية الحرة، وهي ما تعرف حاليًا بالمناطق المحررة، ثم جمهورية سورية الديمقراطية، وهي المناطق الخاضعة لسيطرة “مجلس سوريا الديمقراطية”، لمَ لا؟ بمعنى آخر: يتم تثبيت الوضع القائم حاليًا، فكيف سيكون تعريف السوري؟ ومن سوف يحق له أن يقول إنه سوري؟
هذا الافتراض ليس خياليًا، ولا أنه لم يحدث قبلًا، مثلًا، منذ ربع قرن كنت تصادف شخصًا ما، تسأله عن جنسيته فيجيبك بأنه يوغسلافي، لكنك لم تعد تعثر على مثل هذا الشخص حاليًا.
أخيرًا، اعتدنا أن نفتخر بالمدير التنفيذي السابق لشركة آبل الأميركية، ستيف جوبز، لأنه من أصول سورية، مع أن جوبز لم يكن يعنيه هذا الأصل السوري البتة، وهو لم يصبح على ما كان عليه بسبب تلك الأصول السورية بطبيعة الحال، إلا إذا اعتبرنا أن الجينات السورية تمنح صاحبها تفوقًا، وهذه نظرية عرقية عنصرية، ولا تشبه واقعنا أبدًا، خاصة بعد أن فشلنا نحن السوريين، نظامًا ومعارضة، في إدارة أزماتنا، وكنا بحاجة دائمًا إلى من يأخذ بيدنا كي يرشدنا إلى ما نفعل وما لا نفعل، فصار مساعد ثالث لوزير خارجية دولة ما يوجه عملنا، ويرسم لنا المخططات الواجب علينا تنفيذها.