أسقطت الولايات المتحدة، خلال العقد الماضي من القرن العشرين، ألدّ عدوين لنظام الملالي في إيران، وهما نظام طالبان في أفغانستان عام 2001، على إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر أيلول، ونظام صدام حسين، عندما دخلت قواتها الغازية بغداد عام 2003، ومن ثم انسحبت جزئيًا من العراق عام 2011، تاركة العراق لقمة سائغة لإيران، وكذلك فتحت الباب لتغلغلها في سورية بعد الثورة السورية عام 2011، واحتلالها لأربع عواصم عربية هي دمشق وبغداد وبيروت وصنعاء.
أدركت الولايات المتحدة القوة العظمى المتفردة في العالم التي تعتبر ذاتها وريثة الإمبراطورية الرومانية الغربية، حجمَ الخطر الإيراني القائم على الإرث الإمبراطوري الفارسي، والصراع على الكعكة العربية، وبخاصة في سورية والعراق.
لكن ما تاريخ العلاقات بين روما القديمة وبلاد فارس؟
طوال قرون، واجهت الإمبراطوريتان الرومانية والفارسية بعضهما البعض، عند مفترق طرق الشرق الأوسط، على خط يمتد تقريبًا من نهر الفرات إلى أرمينيا. فحاول كل جانب أن يغزو العدو عبر هذه الحدود، فكان الرومان يطمعون بالعراق التي يسيطر عليها الفرس، بينما أراد الفرس سورية الرومانية. بمعنى من المعاني، كانت كل من الإمبراطوريتين صورتين متطابقتين، كل منهما تزعم من خلال سطوتها أنها تحكم العالم.
لم يكن مستغربًا، أن تلك القوتين قد خاضتا الحرب ضد بعضهما البعض مرارًا وتكرارًا، على مر القرون، ففي عام 53 قبل الميلاد، سحق الفرس جيشًا رومانيًا غازيًا في معركة جرت في جنوب تركية، وفي عام 40 قبل الميلاد، اجتاح الفرس الشرق الأدنى الروماني، من سورية إلى فلسطين، وتم طردهم مرة أخرى، ثم تلاه، خلال العقد التالي، شن القائد الروماني مارك أنطونيو غزوًا هائلًا للإمبراطورية الفارسية، لكنه تبيّن أنه فشل دموي ومكلف. ومع ذلك استمرت العديد من المعارك، في العالم القديم، حيث تحتاج أرواح الرجال إلى أقلّ الأعذار للقتال.
لكن الجزء الاستثنائي في الفصول الدموية بين الفرس والرومان، هو توقف سفك الدماء، فقد كان هناك عدد من المرات التي اتخذ فيها الطرفان إجراءات السلام للحفاظ على الاستقرار في منطقة صراعهما الأهمّ سورية والعراق، لكنه كان سلامًا غير مستقر وهش.
لكن أبرز من ظهر بالتاريخ الروماني وأرسى السلام الذي استمر قرنًا، هو الإمبراطور الروماني أغسطس (31 ق.م.-14 م.)، وكان داهية ووقحًا. فقد استخدم العنف بحماس، وصعد إلى السلطة عبر سلسلة من الحروب الأهلية، لكنه كان يعرف متى يخفض خسائره. بعد عدة عقود من الحروب مع الفرس أدت إلى هزائم رومانية متكررة، قدّر أن حربًا جديدة ستكون مكلفة وخطيرة على سياسته الداخلية، فتجنب خوض حرب مع الفرس، لأنه سيكون على رأس جيشه، وفي حال هزيمته سيكلفه ذلك رأسه في روما، فقرر عقد صفقة، وكانت أقرب إلى حيلة في العلاقات العامة، فقد سحب العديد من فيالقه التي تحمل النسور التي هي رمز روماني عن سورية، وهي المرة الأولى التي يتخلى فيها الرومان عن فيالقهم التي تحمل رمز النسر، والتي اعتاد الرومان حملها للدلالة على عدم التراجع حتى الموت، مما أشعر الفرس بالنشوة، احتفل أغسطس بصفقته مكللًا بموكب النصر، وشيّد قوس النصر، وبنى معبدًا للنسور، وكلف ببناء تمثال يجسده حاملًا درعًا منقوشًا عليه النسر، وقام بصك عملات معدنية تظهر ملك الفرس راكعًا تحت قدميه، وقد استثمر هذه الشعارات لاستعادة العظمة الوطنية. باختصار: أعلن أوغسطس النصر دون قتال. وقد نجح في ذلك، فاستمر السلام قرنًا من الزمان تقريبًا، حتى الإمبراطور نيرو (54-68 ميلادية) أثبت أنه مسؤول بما يكفي لمواصلة ذلك.
لكن بعد جيل، عكس الإمبراطور الروماني تراجان (98-117 ميلادية) الآية، وغزا كلًا من العراق والخليج العربي، لكن انتصاراته انهارت بسبب تمرد بين صفوف جيشه، ليقرر خلفه هارديان (117-138 ميلادية)، الانسحاب واستعادة السلام على طول الحدود السورية العراقية ما قبل الحرب.
لكن السلام لم يدم، فقد جلب الجشع والبحث عن المجد والخوف على جانبي الحدود من العودة للحرب. فقد تركت الإمبراطوريتان ميراثًا من الصراع لدولهما اللاحقة، وهما الإمبراطورية الفارسية الساسانية، التي حلت محل الفرس في القرن الثالث الميلادي، والإمبراطورية الشرقية أو البيزنطية، التي نجت بعد سقوط الغرب الروماني عام 476 ميلادي، فحققت عدة انتصارات وخسرت، تخللها مدن محاصرة وتهجير سكان سورية، فقد احتل الساسانيون عاصمة سورية الرومانية دمشق، ودمرت الجيوش الرومانية بدورها العراق.
لم يفز أي منهما، ويحقق الانتصار الحاسم، بل أصابهما الإرهاق المتبادل من استمرار حروبهما. حتى نشأ تحد جديد ومفاجئ، وغير متوقع، لتظهر إمبراطورية جديدة تقضي عليهما معًا، جسدتها القوة الصاعدة للعرب، فاستولت جيوش الإسلام الديناميكية المنتصرة، على معظم الإمبراطورية البيزنطية وكامل الإمبراطورية الساسانية، في منتصف القرن السادس الميلادي، فالقوتان مستنفدتان بعد قرون من القتال.
تعتبر إيران نفسها اليوم قوة عظمى، لكنها فعليًا قوة عظمى على ساقي دجاجة، فهي اليوم محاصرة، ورغم احتلالها لسورية، فعليها مواجهة الروس الذين يعتبرون أنفسهم ورثة بيزنطة، أو كما تعرف بالإمبراطورية الرومانية الشرقية، والأميركيون الذين يعتبرون أنفسهم ورثة الإمبراطورية الرومانية الغربية، والأتراك الذين يعتبرون أنفسهم ورثة الإمبراطورية العثمانية، والكيان الصهيوني الذي يحلم بـ “إسرائيل الكبرى”، ويبحث عن صفقة القرن الوهمية. ففي عش الدبابير هذا، تبقى سورية وشعبها ضحية نظام تأجير الشقق القمعي الذي استجلب قوى الاحتلال وأيقظ القطط النائمة، فقط ليستمر بحكمه، ودمّر سورية وهجّر أبناءها، ليفسح المجال لأطماع الآخرين في أرضها.