استاء سوريون كثر من تصريحاتِ شخصيات إخوانية سورية، وكانت تتطابق مع سياسات الحكومة التركية بخصوص اللاجئين، التي تراجعت هي عنها، بينما لم نسمع بتصريحات جديدة لتلك الشخصيات تؤكد خطأها وفشلها في فهم حاجات السوريين، لاجئين وثوريين وغيرهم، فقد ظلّوا يكرّرون الخطأ تلو الآخر، على نحو يفيد برؤية تتجاوز سورية، وتنطلق من مفهوم الأمة الإسلامية، وفي هذا هناك نقد كثير للإسلاميين وللشيوعيين وللقوميين، حيث جميعهم لا ينطلقون من المحلي، بل مما هو إقليمي أو كوني، وبالتالي لم يساهموا في إشادة وطنية محلية، سواء في سورية أو مصر، أو العراق وسواها.
المشكلة مع الإخوان أكثر كارثية، فإذا كان النقد للشيوعيين وللقومين جائزًا، وهو بحكم الشائع والمستهلك في العقد الأخير، فإن نقد الإسلاميين أكثر صعوبة، لكونهم يطابقون بين تنظيماتهم “الإخوانية وسواها” وبين الإسلام ذاته؛ فيصير كل نقدٍ يُوجّه إلى الإسلاميين نقدًا للإسلام بكليته وللنص الديني المقدس. نتيجة ذلك، يتسيّس الشعب فيصبح طوائف ومذاهب، ويتمُّ رفض كل وطنية تعلي من الانتماء إلى الوطن والفرد، على حساب الجماعة الدينية أو القومية. للدقة نقول إن الإسلاميين بذلك يكملون سياسات الأنظمة العربية الفاشلة في تطوير التنمية، وعكس ذلك، فهم يطوّرون التخلف والارتداد عن قيم العصر وتسييس الهويات ما قبل الوطنية، أي الدينية والطائفية والعشائرية وسواها.
المشكلة مع الإسلاميين وكل الطائفيين تكمن في استنادهم إلى النص الديني الثابت السرمدي، بينما بقية الأيديولوجيات يمكن نقدها، والابتعاد عنها، وتحتمل سقوطها. مشكلة الإسلاميين تتجاوز سورية، وكذلك مشكلة الطائفيين، فهم يرون حدودهم كلّ مكان فيه أبناء طوائفهم ودياناتهم، وهذا منظور قروسطي، حينما كانت تُبنى الأنظمة على الدين، وتتشكل الإمبراطوريات وفقًا لتلك الرؤية. إذًا هناك رؤية ماضوية مفارقة للعصر وقيمه ورؤاه ومرتكزاته، أي الليبرالية والعقلانية والدولة القومية أو الوطنية وسواه، وأيضًا للعلوم الوضعية والثقافات التعددية وحقوق الإنسان والمواطنة، وهي من المواضيع التي يرفضها الإسلاميون بدورهم، ويحاولون أسلمتها ما أمكن؛ ففي مجال حقوق الإنسان يطالبون بحقوق لا تتجاوز الشريعة، وبخصوص العلوم يعملون على إيجاد نص ديني يتضمن العلوم الجديدة ونظرياتها، وبخصوص الدستور والمواطنة يريدون أن تنطلق من النص والشريعة، وبأحسن الأحوال ألا تتناقض معهما، بل تستقي منها قوانينها. هذه العقلية تتجلى في حساسيتهم من مفهوم العلمانية وحقوق المرأة والمواطنة، واستبدالها بالمدنيّة أو الديمقراطية، ومحاولة الفصل المطلق بين العلمانية والديمقراطية، وتحويل العلمانية إلى إلحاد، والديمقراطية إلى مسألة دينية. وبخصوص الفصل، حيث تكون الإشادة بالديمقراطية، من أجل انتخاب المرة الواحدة وإلغائها من بعد، أو تشكيل المجتمع والحياة السياسية ليعودوا للحكم ثانية وثالثة وإلى أبد الآبدين؛ ليست حالة (حماس) في غزة وحيدة، وهناك النظام الإيراني، ونظام البشير قبل بداية الإطاحة به، والتي لم تكتمل بعد، والنقد ذاته وُجِّه إلى الإخوان المسلمين في مصر، وإن انقلب الجيش عليهم.
شذّت تجربتان مهمتان، وهما تجربتا تركيا وتونس، وإذا كانت تركيا متقدمة بسبب أصالة العلمانية هناك، والتطور المجتمعي العام، فإن الأمر في تونس يَعِدُ بتطورٍ إيجابي، وهناك من يتخوف أيضًا من ارتدادٍ أصولي، وقد ينعكس في مؤسسات الدولة والمجتمع بآن واحد. مع التحفظات أعلاه، هناك شعور بأن هذه الدول لن تنتكس، وستنتهج الإطار العلماني الديمقراطي، وبالتالي الإسلام السياسي فيهما لا يتناقض مع الإطار السابق، بل يتحرك ضمنه، ويُحرز مكاسب من خلاله. كل ذلك يقول بضرورة فصل الدين عن الدولة وعلمنة الحياة السياسية، وضرورة الوطنية لكافة أشكال القوى السياسية، وليس الإسلامية فقط، حيث إن الانتماء إلى الوطن يفتح الرؤية والعقلية على كافة المشتركات مع أبناء المجتمع، وبغض النظر عن الاختلاف معهم، أكان دينيًا أم عرقيًا أو أي شكل آخر. تجارب الإسلام السياسي، ولا سيّما بعد أن اندلعت الثورات العربية في 2011، توضح أن الانتماء إلى العصر لديها ما زال هامشيًا، وما زالت العقلية الدينية متينة في فهمهم للسياسة والثقافة والمختلف وللوطن ذاته. في هذا السياق، لا يمكن الاستناد إلى الفتوى أو الدين بنصوصه وللشريعة بعامة، يجب الاعتماد على العقل في فهم العصر وحاجات المجتمع والعالم، واستقاء كل الرؤى والسياسات منه. هذه القضية تقول بأن السياسة أصبحت مسألة وضعية بامتياز، والدين مسألة إيمانية، والثقافة قضية علمية، والوعي يجب أن يتعلمن ويصبح علميًّا، وأن الأوطان هي المكان الذي يتم الانطلاق منه، وخوض الصراع فيه، وفقًا لوقائعه ومشكلاته، وأيضًا انطلاقًا من مفهوم الشعب وليس مفهوم الطائفة والدين. أليس من الممكن أن تكون السياسة عابرة لكل أفراد المجتمع، مهما اختلفوا في أصولهم الدينية والمذهبية القديمة؟
هل نتجه نحو العزلة فيما ذكرنا، حينما نؤكد على الوطنية، بينما العالم يتحدث عن دولة عالمية وعولمة، وهل المنظور الديني أكثر انفتاحًا مقارنة بالعزلة الوطنية، كما يزعم العقل الإسلامي، وكذلك التبسيط في فهم العلاقة بين المكان والسياسة والشعب؟
لا نبتغي مناقشة قضايا كبرى الآن، ولكن نريد الإشارة إلى أن كل الحديث عن العولمة والعالم الموحد لم يُهمّش الدولة الأميركية أو الفرنسية وسواها، وهناك انبعاث جديد لها، وليس مقتصراً على الشعبويين، وبالتالي هناك تكامل بين الوطن والعالم الموحد، وليس هناك من تناقضٍ، كما تزعم بعضُ التيارات الليبرالية أو الإسلاميون وسواهم.
كتب الفنان السوري فارس الحلو “بوستاً” على صفحته في (فيسبوك)، ضمن أجواء تأييد بعض الإسلاميين للحملة ضد اللاجئين السوريين، وفيه أن “سورية القادمة ستسحق الفكر الإخواني…”، وربّما لم يُصب كما يجب، ولكن كلامه يخص الفكر الضيق والمحدود والموقف السياسي الخاطئ، ولم يتكلم عن سحق الإسلاميين؟ وماذا كانت النتيجة؟ اكتُشفت مسيحية الرجل، وأنه يُخفي كراهية للإسلام، وليس للإخوان مثلًا! وبدأت تتوالى التشهيرات به، وأنّه منحاز إلى النظام ومن هذه الحكايات الرديئة؛ البوست جاء في سياق التذمّر السوري العام من موقف بعض الإسلاميين، ولم يأتِ تأييدًا لاجتثاثهم الآن أو من قبل أو من بعد، ولهذا فإن الابتعاد عن المنظور الديني مسألة حاسمة في تأسيس الدولة الحديثة، وفهم السياسة، وضمان حق التعبير للذات وللمختلف، وفي الوقت ذاته يضمن الانتماء إلى العصر والوطن والعالم أيضًا.