اقتصادسلايدر

صدّقوا أو لا تصدقوا: لا أسبابَ اقتصادية لانخفاض سعر الليرة السورية!

لماذا تستمر الحاشية الأسدية، منذ الأب حتى الابن، في الإصرار على الكذب، وإنكار الوقائع الاقتصادية وترويج الأوهام وبث دعايتها المُضلِلة، وممارسة الفصام والانفصال عن الواقع؟ إن طرح السؤال بتلك الصيغة يُعدّ خطًا. فمَنْ لا يمتلك تلك المواهب، ويتمتع بالجرأة على ممارستها من دون تأنيب ضمير أو أي قلق أخلاقي، لا يستطيع أن ينضم إلى تلك البطانة السلطوية الفاسدة والمُفسَدة. حدثت استثناءات قليلة ونادرة، والاستثناء يُثبت القاعدة كما يُقال. على سبيل المثال لا الحصر، استقال الراحل الدكتور محمد الأطرش (وزير المالية السابق)، ليحفظ ماء وجهه ويحمي كرامته الشخصية، اتُهم الراحل الدكتور عصام الزعيم (وزير الصناعة السابق) ظلمًا وعدوانًا، وأُقيل ومات قهرًا بسبب محاولته إنفاذ القانون وفق المعايير الدولية للدول الطبيعية.

تلك المقدمة ضرورية لإلقاء الضوء على ما يحدث لليرة السورية مجددًا، وكيف يُفسِره موظفو الأسد الاقتصاديون، ويتعاملون معه. فقد شهد سعر صرف الدولار ارتفاعًا تدريجيًا، ابتداءً من أواخر كانون الثاني/ يناير 2019، حين تخطى حاجز 500 ليرة للدولار الواحد. واستمر الارتفاع ليتجاوز حاجز 600 ليرة، ابتداءً من منتصف حزيران/ يونيو، وصولًا إلى سعر قياسي نهاية حزيران مسجلًا 613 ليرة. ثم انخفض قليلًا لبضعة أسابيع إلى ما بين 590 إلى 580 مقابل الدولار. لكنه ما لبث أن عاد للارتفاع ليتجاوز حاجز 600 ليرة، أواخر تموز/ يوليو 2019، حين سجل 605 ليرات للدولار الواحد. أي بعد ثلاث سنوات ونيّف من تسجيله الرقم القياسي الأعلى بتاريخ الليرة السورية، بسعر 650 ليرة للدولار في منتصف أيار/ مايو 2016.

يجري الارتفاع الجديد حاليًا بعد أن حافظت قيمة الليرة على استقرار نسبي، خلال العامين الماضيين، بسعر راوح ما بين 450 و500 ليرة مقابل الدولار. وهو سعر متقارب من سعر الصرف الرسمي (438 ل.س = دولار واحد). والمُقلِق أكثر يتمثل بأن المؤشرات والمعطيات كافة تشير إلى أن تدهور سعر الليرة مرشح للاستمرار بوتائر متعاظمة، كما يُخشى من انهيارها.

استطاع حاكم المصرف المركزي السابق تحسين سعر صرف الليرة، خلال عامي 2017 و2018، نتيجة إجراءات التدخل في سوق القطع الأجنبي، عبر ضخ كميات كبيرة من الدولارات وطرحها للبيع المباشر في السوق. لكن المُستغرَب كيف تجاهل ذلك الحاكم أن إمكانية ذلك التدخل محدودة زمنيًا، بسبب تضاؤل احتياطي الدولار واقترابه من النضوب في الوقت الذي انعدمت فيه فرص تجدده وتراكمه، وهذا ما حدث بالفعل أوائل عام 2019. أُقيل الحاكم وعُيّن حاكم جديد أوقفَ سياسة التدخل، وعاد سعر الدولار للارتفاع.

ومع معاودة الارتفاع، ها هو الحاكم الجديد يُذكّر باكتشاف سيده “المؤامرة الكونية”، من خلال تأكيده أن ارتفاع سعر صرف الدولار وهمي، لا أسباب اقتصادية له، ويندرج ضمن حملة منهجية لإضعاف سورية اقتصاديًا، من خلال التصويب على مصرف سورية المركزي لزعزعة الثقة بإجراءاته، ودفع المواطنين إلى التخلي عن عملتهم الوطنية. ولا علاقة لما يحدث بعوامل اقتصادية، إنما يترافق مع قانون “سيزر” الذي فرض عقوبات اقتصادية على سورية والذي أعدته الولايات المتحدة الأميركية مطلع العام. واتهم المواقع الإعلامية بلعبة استدراج لدفع المركزي إلى رفع سعر الصرف الرسمي. وعلى غراره، أوضح “وزير الاقتصاد”! أن الأسباب الجوهرية لاستمرار تراجع سعر صرف الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، ليست اقتصادية! وإنما المضاربة ووجود ظروف مواتية للمضاربين.

ما الظروف المواتية للمضاربين؟ أوليس “عجزُ المركزي عن التدخل للحفاظ على سعر الليرة”، واضطرارُه إلى إبقاء الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق واسعة، وعدمُ تمكنه من تمويل مستوردات التجار، أسبابًا وعوامل اقتصادية تتيح مناخًا للمضاربة المالية وتعزز انهيار الليرة التدريجي. وتزيد خوف الناس من الاحتفاظ بالليرة وترفع طلبهم على الدولار. يضاف إلى عمليات المضاربة، الطلب المتواصل على الدولار في السوق الداخلية لتأمين تمويل المستوردات. كما لا يمكن فصل تلك الأسباب المباشرة عن العوامل غير المباشرة خلال ثمانية أعوام من تدمير البنية التحتية، والشلل الكبير في عجلة الإنتاج، مما أدى إلى تعرض الاقتصاد لخسائر تتجاوز 380 مليار، أي نحو سبعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010، وطباعة النقود دون تغطية من إنتاج سلعي أوصلت معدل التضخم في الاقتصاد إلى 1200% منذ عام 2011 حتى الآن.. إلخ.

لماذا يتم إنكار وجود أسباب اقتصادية لتدهور سعر الليرة؟ وما سر التهرب من الحديث حول “عجز المركزي” عن التدخل في سوق القطع؟ ولماذا لا يستطيع اقتصاديو الأسد الاعتراف بأن سبب عدم القدرة على “تدخل المركزي” في السوق هو نفاد احتياطي القطع الأجنبي؟! إن إنكار تلك الحقيقة وتجاهلها لا يحل المشكلة بل يفاقمها. مرة بعد أخرى، يثبت حل الأزمات المالية بالطرق الأمنية، من اعتقال الصرافين وإغلاق شركات الصرافة، وفرض سعر “رسمي” للدولار أدنى من قيمته في السوق السوداء، فشله الذريع، لأن المشكلة اقتصادية وحلها يجب أن يكون اقتصاديًا.

يكمن السر في تحريم التطرق إلى موضوع احتياطي العملات الصعبة لدى المركزي، والتعامل معه باعتباره سرًا خطيرًا يتعلق بـ “بالمصالح العليا للأمن القومي”! منذ عام 1970 عمد الأسد الأب إلى قطع الطريق نهائيًا على صيرورة إمكانية بناء “دولة حديثة” في سورية، وإحلال “دولة سلطانية” قروسطية مكانها. الخزينة في الدولة السلطانية جيوب رعاياها، لكنها “ملك شخصي” للسلطان، يتصرف بها كما يشاء من دون حسيب أو رقيب. ألم يؤخر إدخال عائدات النفط إلى الموازنة العامة عقودًا من الزمن؟ ألم يمنح الأسد الأب شقيقه رفعت “جائزة ترضية” لإخراجه من سورية؟ لذلك يتم التعامل مع احتياطي العملات الصعبة بوصفه شأنًا سلطانيًا لا يتم استحضاره. لكن سر احتياطي القطع الأجنبي هو سر مفضوح، فبحسب تقديرات البنك الدولي، كان الاحتياطي قبل عام 2011 نحو 18 مليار دولار. أما الآن، فهناك تقديران: الأول يتحدث عن 700 ـ 800 مليون دولار، والثاني يتوقع نفاد الاحتياطي. إذن؛ المشكلة تتمحور حول نضوب الاحتياطي وحلها يكمن بوسائل تكوين احتياطي جديد.

جميع الاقتراحات المطروحة لحل المشكلة تُفسد “شهر العسل” بين الأسد ورجال أعماله. رئيس وزراء الأسد يقول لرجال الأعمال خلال اجتماعه معهم: “لقد قدمنا لكم كل ما تطلبونه.. والآن عليكم أن تقدموا وتردوا الجميل”. ويخاطبهم متابعًا: “لو أن كل رجل أعمال، يمتلك 10 أو 20 مليون دولار، أودع مليون أو مليوني دولار في البنوك الوطنية؛ لكان لدينا رصيد لا يقل عن 6 مليارات دولار، ولكان سعر الصرف الذي تشكون منه قد استقرّ”. وذكّرهم بأن أغلبهم “يحرص على إيداع أمواله خارج البلد، ويضعها في البنوك العربية أو الأجنبية، ثم لا تكفون عن الطلب من الحكومة دعمكم وتقديم التسهيلات لكم”.. وتساءل: “ألا يحق للحكومة وبلدكم أن يطالبكم في هذه الظروف الصعبة بأن تقفوا إلى جانبه!”.

إذن، رد الجميل يتجسد بأن يودع رجال الأعمال جزءًا من أموالهم في البنوك الحكومية، لمنع الليرة السورية من الانهيار، وأن يساهم القطاع الخاص بإنقاذ القطاع العام، من خلال مبدأ التشاركية، الذي أُعيد طرحه من جديد، والمساعدة في مواجهة الحصار الاقتصادي، من خلال تنفيذ القرار الحكومي الأخير الذي طالب بإعادة العمل بتعهد إعادة القطع الناتج عن التصدير إلى المصرف المركزي. لكن غرفة تجارة دمشق رفضت قرار إعادة العمل بتعهد إعادة القطع الناتج عن التصدير إلى المصرف المركزي، مهما تكن الآلية والتسعير، أي حتى لو تم شراء الدولار من المصدرين بسعر السوق السوداء؛ فالتجار أكثر من يتحسس واقع سعر صرف الليرة السورية الذي يتدهور بسرعة، ولذلك يريدون الاحتفاظ بالدولار من أجل النجاة بأنفسهم وأموالهم، في حال ساءت الأوضاع الاقتصادية أكثر، وانهار سعر صرف الليرة.

يستطيع رئيس وزراء الأسد أن يخاطب أصحاب عشرات ملايين الدولارات، ويحلم بأن يُكّون رصيدًا بنحو 6 مليارات دولار، لكنه لا يتجرأ على أن يطالب أصحاب مئات مليارات الدولارات بالمساهمة في تكوين ذلك الرصيد الذي يساوي فتات موائدهم. فلماذا لا يقترب من حيتان المافيا الاقتصادية، ويكتفي بإحراج أسماكها الكبيرة والمتوسطة؟! لأنه يعرف، قبل غيره وأكثر من غيره، أن أولئك الحيتان العمالقة ليسوا أكثر من أمناء صناديق “خزائن الأموال السلطانية” التي لا يمكن لأحد أن يمد بصره صوبَها. وسبق أن أُطلِق على هؤلاء الحيتان مصطلح “واجهات اقتصادية”.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق