تحقيقات وتقارير سياسية

حرب الناقلات في الخليج العربي بين مزدوجات ضبط النفس والتهور

ظهر وجه آخر من الصراع الإقليمي في بحر الخليج، بعد توسيع دائرة المناورات الأميركية الإيرانية، ودخول لاعبين جدد على خط المواجهة، وعلى الرغم من إصرار دول الاتحاد الأوروبي على الحفاظ على سياسة ضبط النفس واحتواء العداء الأميركي الإيراني في المنطقة، ومحاولتها لعب دور الوسيط بين طرفي الصراع؛ فإن المواقف الأوروبية لم تبق على مسار واحد، وبدا أن بريطانيا اتخذت موقفًا متقدمًا على شركائها الأوروبيين (فرنسا، ألمانيا) بعد إقدامها على احتجاز ناقلة نفط إيرانية، (غريس 1)، في الرابع من تموز/ يوليو 2019، بذريعة أنها كانت متجهة إلى ميناء بانياس السوري، وهو أمرٌ مخالف لنظام العقوبات المفروض على النظام السوري.

وبخلاف تعدد الروايات حول موضوع الناقلة، ومجرى مسارها، لم ينفع كل ذلك في إطلاق سراحها من قبل البريطانيين، بل وضعت عليها شروطًا عدتها إيران إهانة بحقها، الأمر الذي دفع التيار المتشدد داخل إيران إلى إطلاق تهديدات، جاءت على لسان كل من رئيس هيئة الأركان ومرشد الثورة، وقيادات الصف الأول من الحرس الثوري الإيراني، جميعهم توعدوا بالرد، إذا لم تفرج بريطانيا عن الناقلة، وحُسم الأمر على ما يبدو بعد إعلان بريطانيا تمديدها احتجاز الناقلة لشهر إضافي، على لسان وزير الخارجية الأسبق جيرمي هانت، فبادرت إيران بالرد، واحتجزت ناقلة نفط بريطانية في 19 تموز/ يوليو 2019، (ستينا إمبرو) واقتادتها إلى ميناء بندر بن عباس، وبررت طهران فعلها بأن السفينة خالفت قوانين الملاحة البحرية وحرفت مسارها واخترقت مياه إيران الإقليمية، ودفع ذلك الحكومة البريطانية إلى رفع حالة التأهب، على المستويين السياسي والعسكري، وأرسلت سفنًا حربية إلى الخليج، وعقدت اجتماعات طارئة لدراسة خياراتها في التعامل مع إيران، لكن الخيار العسكري تم استبعاده من قائمة السيناريوهات، بعد التصريحات التي صدرت عقب اجتماع الطوارئ (الكوبرا) وهو ما عكس عجز بريطانيا عن الدخول في مواجهة عسكرية مع إيران، واكتفت بطرح مشروع مواز للمشروع الأميركي بتشكيل ائتلاف تحالف دولي لحماية حركة أمن الملاحة البحرية في المنطقة، ومن هنا، بدا أن أزمة حرب الناقلات حلقة جديدة ضمن دائرة التوتر الراهن في منطقة الخليج، والناتج عن مراحل التصعيد الأميركي الإيراني.

حسابات خاطئة

إن وصول مسار الأزمة بين بريطانيا وإيران قاد أخيرًا إلى طريق مسدود، وذلك بسبب حسابات متناقضة لكلا الطرفين، تجلى ذلك وفق ما يلي:

– من خلال تبرير إيران لاحتجاز الناقلة، تعتقد أن موضوع العقوبات الأوروبية في حركة الملاحة والسفن في مياه الخليج لا تشملها، وترى أن لها حرية التصرف في المياه التابعة لها في بعض أجزاء مياه الخليج ومضيق هرمز بالكامل، ومن خلال سلوكها في المنطقة وعرقلتها الجزئية لحركة الملاحة عبر استهداف سفن وناقلات تابعة لدول الخليج، في أيار/ مايو الماضي، بدأت توصل رسائل لجميع الأطراف، مفادها أنها المتحكمة في الأمن المائي البحري، وكانت هددت سابقًا عبر مسؤوليها بإغلاق مضيق هرمز، ومنع بقية الدول من تصدير نفطها، إذا لم يُسمح لها ذلك، وفي آخر تصريح لنائب مستشار المرشد للشؤون الدفاعية حسن دهقان، قال: إن (معادلتنا في مضيق هرمز، هي إما أن ينعم الجميع بالأمن ويصدر نفطه، وإما لا أمن لأحد)، ومن ناحية أخرى، تُعدّ إيران من الدول التي لم توقع على اتفاق قانون البحار الصادر عن الأمم المتحدة في 1982، وقد دفعها عدم التوقيع إلى تفسير قوانين خاصة بها بعيدة عن ميثاق البحار لتوظفيها في مثل هذه الحوادث، وربما تتحمل أميركا مسؤولية عدم إجبارها على التوقيع على هذا الاتفاقية، على الرغم من إقرارها أن مضيق هرمز الدولي يدخل ضمن هذه الاتفاقية. لذا فإن تفسير السلوك الإيراني يدخل وفق اعتبارات قانونية وسياسية واقتصادية خاصة بها، ويعكس توسعيها هامش المناورة البحرية أنها انتقلت إلى مرحلة ثالثة من استراتيجية مدروسة، وحوّلت الصراع الثنائي إلى قضية دولية وشأن عام، بهدف جرّ بعض الأطراف للوقوف معها في مواجهة العقوبات الأميركية وتحسين شروط التفاوض قبل العودة إلى طاولة المفاوضات.

– بريطانيا تتمسك أيضًا بذريعة قانونية في احتجاز الناقلة الإيرانية في مضيق جبل طارق، لكن ذلك يُعد هشًا ومحاولة مكشوفة، هدفها الدخول على خط الأزمة، حيث أن هناك روايات أخرى تأكد أن الناقلة كانت متجهة إلى روسيا وليس إلى النظام السوري، وعليه فإن الراوية الإيرانية بهذا الصدد تُعدّ أقوى، لكونها ليست طرفًا بأي اتفاق بحري، كما ذكرنا.

ويُطرح هنا تساؤل عن غاية بريطانيا من الإقدام على هذه الخطوة، إذ لا توجد معلومات جازمة عن أن أميركا أقنعت الأخيرة باحتجاز الناقلة، بعد رصدها عبر الأقمار الصناعية قبل تحركها، ومن ناحية أخرى يُعد الموقف البريطاني ضبابيًا في موقفه تجاه الأزمة الإيرانية الأميركية، فمن ناحية عارضت سلوك ترامب في سياسات فرض العقوبات والخروج من الاتفاق النووي، وبنفس الوقت، عارضت سلوك إيران في استراتيجيتها التوسعية والتملص من بعض بنود الاتفاق النووي، مع ذلك يغلب على السلوك البريطاني أنه أقرب إلى الجهود الأوروبية الفرنسية الألمانية أكثر من التماهي مع إدارة ترامب، وما يعزز هذا الطرح محاولة أميركا التخلص من الأعباء الأوروبية ومطالبتهم أكثر من مرة بدفع أموال مالية مقابل الحماية، حتى وصل الأمر إلى مطالبة مباشرة بخوض حروب نيابة عنها في الشرق الأوسط، كما في المسألة السورية، وفي السياق نفسه، خيبت إدارة ترامب حماية حلفائها حتى اللحظة في مياه الخليج، عبر تصريحات مباشرة من الرئيس ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو، عبر القول: إن على بريطانيا أن تحمي سفنها في مضيق هرمز، عقبها قول ترامب: لماذا نحمي سفن دول أخرى في مضيق هرمز من دون مقابل؟ وأضاف: “لم يعد مضيق هرمز يهمنا”.

– هذه المواقف قادت دول الاتحاد الأوروبي إلى التفكير نحو تحقيق جزء من الاستقلالية السيادية عن حلف الناتو، خاصة بعد تعرضها لخذلان أميركي صريح، وقد أدى ذلك إلى تباين في المواقف داخل الاتحاد الأوروبي نفسه في التعامل مع إدارة الأزمة المتصاعدة، وانتقلت بريطانيا من طرف وسيط إلى طرف في الأزمة، وجعلها ذلك في موقف حرج لأسباب تتعلق بانتقال الحكومة وتسليمها إلى بوريس جونسون، كخليفة لـ تيريزا ماي، فضلًا عن الأزمات مع الشركاء الأوروبيين في مسائل الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، والتطورات في شرق المتوسط، بعد تصاعد الخلاف بين تركيا ودول أوروبا على مسائل تنقيب الغاز وترسيم الحدود، لأن بريطانيا تُعد طرفًا أساسًا في تسوية الأزمة التاريخية بين قبرص تركيا وقبرص اليونان، منذ عام 1959، وتحتفظ بقاعدة عسكرية في قبرص.

– بريطانيا لا ترغب في التصعيد مع إيران، لكونها تصطف إلى جانب الأوروبيين في معارضتهم سياسة إدارة ترامب في الخروج من الاتفاق النووي، حيث تحمّل دول أوروبا الإدارة الأميركية مسؤولية خروج إيران عن السيطرة، والانتقال من سياسة الاحتواء إلى التمرد، بعد استمرار حصارها وخنقها على كافة المستويات، كما أن بريطانيا ترغب في الحفاظ على استثماراتها النفطية مع دول الخليج، عبر شراكتها النفطية مع دول الخليج.

المخرج من الأزمة

الثابت في طرف أزمة الناقلات أن جميع الأطراف لا يرغبون في تعقيد المشهد واللجوء نحو الحرب المفتوحة، لحسابات تعود للأزمات الداخلية أكثر منها في الحسابات الخارجية، فإيران على أبواب الانهيار التام اقتصاديًا من الداخل، وأميركا مقبلة على انتخابات مصيرية قد تغير معالم السياسات الأميركية، إذا ما فشل ترامب في الحصول على جولة رئاسية ثانية، وأوروبا لا تزال واقعة بين نيران الغرب ومحاباة إيران، ولم تتخذ موقفًا موحدًا، بل ظهر الشقاق أكثر في اجتماع فيينا الأخير، في 27 تموز/ يوليو 2019، وعلى الرغم من الجهود الحثيثة لدول أعضاء الاتفاق النووي الأخير، فقد بدا أن إيران متمسكة في موقف متصلب، وأرسلت رسائل للولايات المتحدة الأميركية تحمل المزيد من التصعيد، كما أنها رفضت أي مشروع أوروبي أو أميركي يدعو إلى إرسال أسطول بحري بذريعة حماية أمن الخليج. وفي السياق ذاته بدت جهود الوساطة للدولة العُمانية فاشلة، فالزيارة التي قام بها وزير الخارجية يوسف بن علوي، إلى طهران ولقائه بالرئيس روحاني ومرشد الثورة، نتج عنها إعلان إيران تشغيل مفاعل أراك النووي، وهو ما عكس رفض طهران الشروط الأميركية التي حملها بن علوي لإيران.

لا يمكن الحديث في المدى المنظور عن حل جذري لأزمة الناقلات النفطية بين إيران وبريطانيا، فالجميع يحاول ضبط وإدارة الأزمة، منعًا من الانزلاق التام للحروب المباشرة، وعلى الرغم من تعثر المباحثات الأخيرة، فلا شك في أن طرفي الأزمة سيكثفان من الجهود الدبلوماسية، عبر أطراف وسيطة، قد تساهم في التوصل إلى صيغة مناسبة تنهي أزمة ناقلات (غريس 1) و(ستينا إمبرو)، بطريقة تحفظ ماء الوجه للطرفين، وعلى الرغم من هذا الاحتمال، يبقى خيار فقدان السيطرة موجودًا، مع استمرار وجود ترامب في رئاسة البيت الأبيض، وصعود بوريس جونسون؛ فالأول يسعى لتنامي الفوضى في الخليج واتباع سياسة النأي بنفسه، واستجرار الأموال من دول الخليج، والثاني سيصب كامل جهوده لتحقيق الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق