سلايدرقضايا المجتمع

تحولات العمران في المدينة السورية

تزايد الاهتمام بالمكان داخل حقل الدراسات الثقافية والاجتماعية، منذ سبعينيات القرن المنصرم، وهو اهتمام يقف على النقيض من العناية السابقة التي أولتها تلك الدراسات للزمن، الذي كان ينظر إليه بوصفه الحقل الأساسي الذي يمكن من خلاله ملاحظة التغير الاجتماعي، في حين كان ينظر إلى المكان بوصفه ظاهرة ثابتة، غير متحركة.

الفضاء ليس عنصرًا محايدًا، ودليل ذلك أن الأصوات التي بدأت ترتفع في الغرب حيال بناء المآذن تشير بوضوح إلى أننا نعطي الفضاء معنًى ما، فهو وعاء للذاكرة، يتحول إلى رمز من خلال العلاقة التي نقيمها معه، ومن خلال رؤيتنا له بوصفه جزءًا أساسيًا من هويتنا، ونظرتنا للعالم.

لفهم التحولات في فضاء المدينة ورمزيته في المخيال الجمعي، منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى الوقت الحالي، علينا أن ننظر إلى الطريقة التي يجري بها توزيع النشاط الإنساني في الفضاء، بوصفها رائزًا من روائز تقييم الحياة الثقافية والاجتماعية.

مرت المدينة السورية بثلاثة تحولات، فقد كانت مدينة ليبرالية في العهد الفرنسي والحكم البرلماني الذي تبعه، ثم صارت مدينة نيوليبرالية منذ السبعينيات تقريبًا، مع فترة قصيرة جدًا شهدت فيها المدن السورية توجهًا نحو نمط الأبنية الاشتراكية.

من المزايا التي تتوفر عليها أحياء الأربعينيات والخمسينيات وما قبلها، أنها تعكس رغبة واضحة في التقدم واللحاق بركب العالم الحديث، فقد بُنيت على نمط ينفتح على الثقافة الأوروبية في أبهى مظاهرها حداثة وتقدمًا، ويحافظ في الوقت نفسه على الخصائص المميزة للعمارة العربية الإسلامية، كالزخارف التقليدية واستخدام الأقواس والأعمدة. وفي تلك الحقبة، حقبة التحديث والتطلع نحو المستقبل، نشأت أبنية أصبحت علامات بارزة في قلب المدن العربية الناهضة باقتدار، كمحطة الحجاز، وقصر العدل، ومؤسسة عين الفيجة، وأبنية العابد وكسم وقباني في دمشق، على سبيل المثال.

غير أن الأحياء التي تلت هذه المرحلة كانت أحياء بائسة، عشوائية ككل ما كان في حقبة البعث، وهي قبيحة وكئيبة بكل ما حمله النظام من حقد على السوريين. تنطوي الأحياء العشوائية على إحساس انتاب المجتمع كله، وهو أن العشوائية هي عنوان المرحلة، بعيدًا من التخطيط والإدارة. فمنذ السبعينيات تقريبًا، نهضت أحياء جديدة لا تقوم على أي تخطيط عمراني، قام بها القادمون الجدد إلى المدن، بفعل سياسات الدولة السورية في إهمال الأرياف، وتركها تواجه مشكلاتها وحدها. لقد غيرت تلك الأحياء جغرافية المدن السورية الكبرى، ولا سيما دمشق وحلب وحمص، حيث أنشأ الفقراء القادمون من الأرياف وفقراء المدينة أحياء عشوائية خارج النطاق الرسمي، وقامت هذه الأحياء العشوائية بتغليف المدن من الخارج، مانعة إياها من التوسع العمراني السلمي، وقسمت المدينة إلى قسمين: قسم للأحياء العشوائية، وقسم آخر يخضع لدرجة ما من التنظيم والخدمات، بحكم أنه نشأ في مرحلة سابقة على قدوم البعث.

في ظل حمى ترييف المدينة، جرت العودة إلى الأبنية الريفية، وكان النمط الجديد هو نمط البيت الريفي، بكل ما فيه من بدائية وتخلف. فهو عودة إلى ما قبل المدينة. ترافق هذا مع ردة فكرية في كل المستويات إلى أنماط ما قبل الدولة: الطائفة، المنطقة، العشيرة. إذ يلاحظ في الأحياء العشوائية أن كل منطقة ريفية تسكن في حارة واحدة، لأنها ببساطة انتقلت على نحو شبه جماعي من القرية إلى المدينة، جاعلة من الأخيرة نسخة مصغرة عن المنطقة التي جاءت منها. ولهذا نشأت الأحياء القرى، والأحياء الطوائف، والأحياء العشائر… إلخ. أما مدن مثل دير الزور ودرعا والرقة والحسكة… إلخ فقد حافظت فيها التركيبة العشائرية على نفسها، فهذه المدن منذ نشأتها مقسمة إلى أحياء تسكنها العشائر والبيوتات المختلفة، ولم تقم الأنظمة المتعاقبة بأي محاولة لتحديثها، ونقلها من عالمها القبلي والعشائري إلى عالم المدينة، فهي مدن هامشية في نظر الأنظمة المتعاقبة، التي لم تكلف نفسها عبء بناء نهضة تنموية واقتصادية فيها، وما في تلك المدن من حركة اقتصادية هو نتيجة تحويلات أبنائها المغتربين في دول الخليج على نحو الخصوص.

لكل المدن في العالم، وبخاصة في العالم الغربي، ساحات وحدائق، بنيت من أجل تسهيل قدرة السكان على الاجتماع، فالنمط الغربي في تخطيط المدينة يتكون من ساحة كبيرة، تتفرع عنها شوارع مستقيمة طويلة، تؤدي إلى أحياء المدينة المختلفة. وعلى هذا النمط، جرى تخطيط المدن السورية في الأربعينيات والخمسينيات، ومن ينظر إلى مدينة حلب مثلًا يجد اللمسة الفرنسية واضحة في الحديقة العامة وساحة الجابري والشوارع المؤدية إليهما. ومع أن مساحة الأمكنة العامة، التي تبنى من أجل تسهيل التواصل بين الناس، بدأت تتراجع حتى في العالم الغربي، بسبب عدم رغبة السلطات في الإنفاق على الفضاءات العامة، في مقابل انتشار الأمكنة الخاصة: المولات الكبيرة، الملاعب المأجورة، مدن الألعاب الخاصة، فإن الكارثة في مدننا كانت مختلفة، فقد كان من النتائج الكارثية للأحياء العشوائية، غياب الأمكنة العامة التي يمكن أن يجتمع فيها الناس، حتى المقاهي انتهت تقريبًا وأصبحت حكرًا على المثقفين والنخبة الاجتماعية، بعد أن كانت طقسًا اجتماعيًا يتبادل فيه الناس الأحاديث والآراء. أما المسجد فقد دُمرت إحدى أهم وظائفه: مكان لاجتماع المسلمين، وتبادل الأفكار والنقاشات حول القضايا التي تهمهم، واقتصرت وظيفته على الوعظ فقط.

في إطار الأسدية، انتشرت الأحياء العسكرية، وكان القصد منها منع الاحتكاك بين العسكريين والمدنيين في الفضاء العام، للمحافظة على العصبية بمفهومها الخلدوني، فالعيش ضمن بيئات مدنية، تنتمي إلى مذهب ديني مخالف في مجملها، سيؤدي إلى زوال الطابع العصبوي القائم على رابطة مذهبية في الحالة السورية، وهي خطة تهدف إلى تجنب ما يمكن أن نطلق عليه لعنة المدينة، التي لا يستطيع النجاة منها القادمون إليها، فهي ستستل منهم عبر الزمن ما يحملونه من عصبية، وسيتحولون إلى “مواطنين مدنيين” لن يكون لديهم ذلك الشعور العصبوي الذي كان لآبائهم وأجدادهم، والذي يدفعهم إلى التخندق مع النظام في حربه مع الشعب.

إذا تركنا هذا جانبًا، ونظرنا إلى المدينة في سورية من زاوية مختلفة؛ فسنلاحظ أنها ليست مكانًا للسكن، ولكنها سجن، لأنها محاطة بالثكنات العسكرية. فمدينة مثل حلب، على سبيل المثال، تحيط بها من الغرب إلى الشرق: المخابرات الجوية، الأمن العسكري، الأكاديمية العسكرية، الكليات العسكرية كالمدفعية والتسليح، مطار النيرب، كتيبة الدفاع الجوي المكلفة بحماية المطار. أما دمشق فربما هي أكبر مدينة في العالم تحيط بها قوات عسكرية، بحجة تأمين العاصمة التي ثبت أن العنوان لا يعني إلا حماية النظام من السقوط في حالة الثورة الشعبية ضده.

مشكلة البعثية والأسدية ليست في جذورها الريفية التي جعلتها ترى النموذج المثال مجسدًا في بيت القرية البسيط، مشكلتها أعمق من ذلك بكثير، إنها مشكلة سلطة ليس لديها مشروع تنموي على الإطلاق، فمشروعها ينحصر في الإبادة والتدمير.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق