هموم ثقافية

السينما الجديدة

هناك سباق محموم بين السينما والأفكار، وتلاقح مع وجدانيات وأزمة الذات الوجودية الجديدة، وكأن السينما الآن في مرحلة الخلاص من التركة الاجتماعية القديمة للأخلاق. الأنا الذهنية والوجودية هي مرحلة السينما الحاضرة، والسباق لاكتشاف الذات، من خلال فرضيات فلسفية تغور في الأنا الأعلى لصانع السينما، وكأن السينما تتخلى عن محليتها وما يسمى بالوطنية والمقاومة والانحصار والابتعاد عن الصراعات المريضة بين الشعوب.

ربما ليست السينما وحدها تفعل ذلك، بل تتوازى مع مجمل الإبداعات الأخرى، حتى صار لدينا وجودية من طراز جديد مختلفة عن وجودية الفلاسفة والمفكرين في بداية القرن العشرين.

منذ وجود البشرية، يرصد الإنسان الصراع مع الطبيعة، لكن -على ما يبدو- ظهر الآن صراع آخر، انبثق من ذكائه المنفلت من قوانين الطبيعة، لينتج من هذا الذكاء ذكاء صناعي، سيواجهه بمعضلات تحتاج إلى ذكاء ثالث يقاوم ما أنتجه ذكاؤه الأول في صنع ذكاء ثان يُسمى الذكاء الصناعي.

السينما الحديثة تواجه هذه الاحتمالات، فنيًا وعلميًا، وكأن على عاتقها اكتشاف المحتمل الذي من الممكن أن يدمّر الوجود، وتصوغ ذلك ضمن مركبات سينمائية فنية جديدة.

السينما الحديثة تتشارك مع المخترعين بخيال أوسع ونبوءات فذة، تساعد العلماء والمفكرين والمخترعين، وتحذر الكون من احتمالات قابلة للحدوث، على الرغم من أنها بقالب (الخيال العلمي)، لكنها -يومًا بعد يوم- تعود لتصبح واقعية تمامًا. وليس ذلك جديدًا على السينما، لكنها الآن تتجه وتنمو وتسود بكثافة وبشكل أوسع، فلم تكتف السينما بأفقية الجمال والتسلية، بل انتقل إدهاشها نحو الاكتشافات المستحيلة الممكنة.

تتخلى السينما عن وطنيتها المعتادة لتنتقل إلى مسؤولية كونية؛ لأن الكرة الأرضية أصبحت أصغر مما كانت عليه نسبيًا، أي لم تعد السينما تقارع الأمكنة المغلقة والحدود الجغرافية والسياسية، إنها تنشئ صراعًا جديدًا بين الإنسان ونقيضه، بين الكائن البشري والكائن الفضائي، بين الوجود الواضح واللاوجود الغامض.

دراميًا، انتقلت السينما إلى الذات المطلقة، وإلى سمات الإنسان بالمطلق، لا منطقة ولا لون ولا محلية جغرافية تحكمها، وكأنها تقول إن البشرية ذات مصير واحد، وإن البلدان وحدودها أصبحت بحكم التلاشي. هذا الأمر ينطوي على اكتشاف واختراع قيم أخلاقية جديدة، وتلاشي وأفول قيم أخلاقية قديمة. السينما تقدم احتمالات غريبة مدهشة للإنسان الجديد والأمكنة الجديدة، وتعيد صياغة الزمن من جديد. وعلى الرغم من أنها تستعير الاكتشافات العلمية، فإن المفكرين يستعيرون أفكارًا فلسفية من الأفلام، حتى إنهم يقتطعون حوارات ومشاهد، لتكون دليلًا على صحة أفكارهم ومخاوفهم وتنبؤاتهم الجديدة. إن ما تفعله السينما الآن هو تمرّد واضح على صرامة الأدب، وصعود فوق الخيال الشعري، واختراع قيم درامية، لم يُنتبَه إليها من قبل.

هنا ينبثق أسئلة جديدة: هل ستكون السينما أمَّ الفنون الجديدة؟ ودليلًا معتمدًا للفلسفة؟ هل الصورة الدرامية تتجدد بطرائق يصعب التنبؤ بها؟ وهل أصبح على عاتق السينمائي وظيفة علمية وفلسفية، غير قدراته التقنية الكلاسيكية المعتادة؟ وهل ستكون السينما القادمة مختبرًا يحتوي في مركبه غير العاملين في السينما الذين نعرفهم؟

لم تعد كلاسكيات ما تعلمناه في المعاهد السينمائية سوى مفاتيح بسيطة للسينما، إذ أصبح السينمائي يحتاج إلى إعادة تأهيل فني ومعرفي من جديد، لم يعُد فنانًا وحسب، ولم يعد كاتب السيناريو هو ذاك الكاتب الذي يملك حبك الحكاية ونسج الحوار وتخيل الصورة وحسب، بل أصبح على عاتقه أن يواصل تطور الأفكار والعلوم والاكتشافات وأمزجة ورغبات جيل التقنيات الجديدة، الطفل الذي وُلد في تسعينيات القرن المنصرم، مع تطور الثورة المعرفية الجديدة، ابن الثورة المعلوماتية الإلكترونية السريعة، أصبح عمره اليوم في الثلاثينيات، وهو المتلقي للسينما الآن، ولا يستطيع أن يكون متلقيًا خارج الثورة المعرفية العلمية الجديدة، لقد أصبح لدينا متلقون جدد، وذهب المتلقي القديم بلا رجعة.

السينما الحديثة هي حديثة بكل شيء، فالمحتوى والشكل والبناء والدراما من طراز جديد، فرضتها الحياة الجديدة.. باختصار: نحن ذهبنا إلى كوكب جديد، وعلينا استخدام أدوات جديدة.

الخطاب السينمائي القديم الذي كان خطابًا ذاتيًا تحكمه شؤون الأمم القديمة، ومُثلها عن الأوطان والأديان، لم يعد اليوم ذا قيمة خارج عالم التوحد المصيري للكون، السينما الآن هي مشروع معرفي جمالي ثائر ومتغير على الدوام، لا نستطيع ضبطه خارج المتغيرات المعرفية والنفسية، وما الأزمات الإقليمية إلا حالة ولادة عسيرة للمجتمع الكوني الجديد، والسينما تسبق هذا التحوّل، بل تقوده كأفكار وتنبؤات، تشبه الفانتازيا، لكنها واقعية وواقعية جدًا.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق