البروفسور فلاديمير تشوكوف، مستشرق وخبير بلغاري في العلاقات الدولية وشؤون الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية، صدرت له ثمانية مؤلفات، كان آخرها كتابه (داعش ليس دولة إسلامية) عام 2016. وأول ما يلفت الانتباه في سيرته الذاتية أنه وُلد في أثينا، درس في تونس، تخرج في جامعة دمشق، ويزاول التدريس الجامعي في ثلاث مدن بلغارية: صوفيا وفارنا وروسه، فكيف انعكست الحركة المستمرة وتغيرات المكان على نتاجه الأكاديمي؟ وما هي انطباعاته عن العالم العربي؟ سألته، ونحن في أحد مقاهي الرصيف على شارع فيتوشا، فقال:
الحركة في مختلف أصقاع الأرض، ولا سيما في أوروبا والعالم العربي، أغنتني كثيرًا، ومنحتني منظورًا واسعًا للرؤية، جعلتني أطلع على الكثير من الثقافات والاتجاهات الحضارية وأنماط التفكير المتباينة، وأمدتني بكثير من الطاقة والدقة لدى معاينة الأحداث المعاصرة وتحليلها، ولا سيّما أننا -البلغار- نوجد على الحدود الفاصلة بين الغرب والشرق، وأنا فخور بما استطعت أن أراكمه من خبرات متنوعة، وعلاقات مع جميع البشر، سواء أكانوا مع السلطة أو المعارضة، أم كانوا من النخب السياسية والثقافية والأكاديمية وطلبة المدارس، أو من عامة الشعب، هذا جعلني متمكنًا إلى حد مقبول في ما يتعلق بالتأثير على الرأي العام البلغاري. أعتقد أن على الباحث، لكي يصبح خبيرًا جيدًا، أن يوجد في الميدان على أرض الواقع، لا أن ينغلق على نفسه في إطار مكتبه.
أضاف تشوكوف: أقمتُ حوالي عشر سنوات في تونس أولًا ثم في سورية، ومع أن البلدين ينتميان إلى العالم نفسه، فإنهما يختلفان تمامًا، في تونس سبعينيات القرن العشرين (زمن بورقيبة) لم أتحدث العربية، كنت مضطرًا إلى أن أتكلم باللغة الفرنسية للتفاهم مع البشر، أقله في حدود الوسط الذي عشت فيه. لا يمكنني الحديث عن انطباعات عامة حول العالم العربي، لأنه ليس عالمًا متشابهًا، إنه على غاية من التنوع والاختلاف، كأنه قارة بحد ذاته. اليمن مثلًا بلدٌ داخلي، واليمنيون يسكنون المرتفعات معزولين عن العالم، بينما سورية دولة شرق أوسطية، منفتحة على أوروبا، كذلك لبنان. التقيت بكثير من السوريين واللبنانيين، كانوا دمثي المعشر، يتمتعون باطلاع واسع ومعرفة عميقة، ويتحدثون عدة لغات، وفي جامعة دمشق كان يدرّسني أستاذ مدهش، يتقن ست عشرة لغة: عشر لغات معاصرة وست قديمة! بالمقابل كان هناك الكثير من الأميين بين عامة الناس، ولا سيما بين النساء. ومن العجائب كانت مادة الثقافة القومية الاشتراكية، وكنت اجتاز امتحانها بشق الأنفس.. في العالم العربي قابلتُ نخبة أدهشتني، يقلّ نظيرها حتى في الغرب، كذلك قابلت أناسًا كأنهم لا يزالون يعيشون في القرون الوسطى، إنه عالم يشبه حكايات شهرزاد، وكنتُ أشعر بأني أدخلها بمجرد دخولي بعض المحال في سوق الحميدية، أو أي أسواق مماثلة في البلدان العربية الأخرى.
رئِس البروفيسور تشوكوف هيئة تحرير مجلة (العلاقات الدولية)، وكان له دور بارز في تأسيس مبادرات مستقلة تُعنى بالدراسات الشرق أوسطية، والتعريف بالعالم العربي، كإطلاق “المركز البلغاري للدراسات الشرق أوسطية” عام 1999، وموقع “أورينت” الإلكتروني عام 2008. كذلك شارك في كثير من اللقاءات والحوارات حول قضايا الهجرة واللجوء، وأبدى تضامنه مع حق الشعب السوري في بناء دولته الديمقراطية. فما الذي يحتاج إليه الجهد الأكاديمي والحوار المتعدد الأوجه بين الغرب والشرق، كي يغدو أكثر فاعلية؟ سألته، فقال:
يفتقر هذا المجال إلى القوة المؤسساتية ودعم الدولة، أشعر وكأني دون كيشوت، فكل المراكز والمواقع التي أطلقتها تندرج ضمن هيئات المجتمع المدني، وتعود إلى جهدي الشخصي الخاص، حتى إنني حاولتُ تأسيس اختصاصات في جامعة بورغاس ثم في روسه، لا تدخل في مجال الأدب العربي، إنما في إطار العلاقات الدولية التي تتجه نحو الشرق الأوسط، كي يتعرف الطلبة والرأي العام البلغاري إلى نبض العالم العربي وخصوصياته، وعلى حقيقة ما يجري فيه من أحداث. على سبيل المثال، لماذا يتدفق هذا العدد الكبير من اللاجئين السوريين؟ وماذا بإمكاننا أن نفعل إزاءهم نحن البلغار، بوصفنا دولة مضيفة، ومن موقعنا كجزء من الاتحاد الأوروبي؟ فهؤلاء غادروا وطنهم مرغمين، هربًا من الدكتاتورية الحاكمة ومن القنابل المتفجرة، كما أن الشتات السوري كان كبيرًا حتى قبل عام 2011.
حول سؤالي عن رأيه في ما يجري في سورية، قال: تاريخيًا، كانت سورية ملتقى طرق ودولة شرق أوسطية، منفتحة على أوروبا وعلمانية على غرار الدول البيزنطية. أسماء الحكام الأمويين كانت علمانية، معاوية بن سفيان، يزيد.. وفي زمنهم لم يكن هناك الشريعة، كان يحكم القانون الروماني، الشريعة جاءت مع الخلافة العباسية، أسسها نعمان بن ثابت، زمن حكم هارون الرشيد، ومع هذه الجذور والخصوصيات التاريخية يصعب على السوريين قبول الدكتاتورية، وكان على بشار الأسد (الشاب المتعلم والمتمدن) أن يباشر بإصلاحات حقيقية وجذرية، منذ استلامه عام 2000، لكنه انصاع لإرادة الحرس القديم في السلطة.
أضاف تشوكوف: في سورية، تتقاطع دكتاتورية الحزب الواحد (البعث) مع الطائفية، وانقلاب حافظ الأسد هو الذي أدخل التقسيم الطائفي إلى أجهزة الدولة، وأسس لسلطة “أقلوية” طائفية، لم تعرفها سورية من قبل، حكم هرمي حيث الأقلية تقود الأغلبية، وهناك مراكز قيادية وقطاعات في الجيش ومختبرات مغلقة على العلويين فقط (مثلًا المختبر 400 لإنتاج الأسلحة الكيمياوية)، هذه السياسة الحمقاء أضعفت الإحساس بالانتماء إلى الأمة والدولة، واستبدلته بانتماءات ما قبل الدولة، كالانتماء إلى الدين والطائفة والقبيلة والقرية وما شابه، فالتركيب الطائفي الأقلوي للسلطة يُنقص الوعي الوطني، وتعوّضه دوائر الأمن بالعنف المفرط الذي يصل إلى حد إبادة الآخر لمجرد اختلافه.
ألا يشكل استمرار هذه الدكتاتورية خطرًا على الغرب نفسه؟ سألته، فأجاب:
علينا أن نطرح السؤال التالي: هل يحق لبلغاريا أو أي دولة غربية التدخل المباشر في سورية؟ أعتقد أن التدخل يعني الغوص في مستنقع الحرب، هذا ليس ديمقراطيًا، سورية للسوريين، هكذا يفكر الغرب، لكن روسيا لا تشاطره الرأي. من جهتي أرى الحل في رحيل الأسد وحاشيته، وكل من تقع عليه مسؤولية ارتكاب الانتهاكات والجرائم، لكن البعثيين الذين لم تتلطخ أيديهم بالفساد والقتل والانتهاكات، ينبغي أن يبقوا ويسهموا في بناء مستقبل سورية، كي لا تتكرر مأساة العراق.
ختامًا، سألته عن الآثار السلبية لخطاب الكراهية، والاعتداء على اللاجئين، وحالات الترحيل القسري؟ قال:
فرنسا دفعت الملايين من أجل دراسة خطاب الكراهية، فكما أن علينا التصدي لخطاب “داعش”، كذلك علينا أن نتصدى لخطاب السيدة لوبان (اليمين المتطرف)، وأنا شاركت في مشروع مشابه، ألقينا محاضرات، وأجرينا بحوثًا لشرح خطر هذا الخطاب، وأنه نسخة مشابهة لخطاب “داعش” و”النصرة”، وهو موجه أصلًا ضد اللاجئين. لكن كانت هناك لحظات صادمة بالنسبة إلى أوروبا، حين شهدت موجة كبيرة من اللاجئين عام 2015، حينها وجدتُ أن السوريين لا يشكلون أكثر 22,7 بالمئة، أي أنهم لا يصلون إلى نسبة الربع من إجمالي عدد اللاجئين، كان هناك الكثير من الأفارقة ومن أفغانستان وباكستان وكوسوفو وأوكرانيا وغيرهم، كلهم يريدون العيش في أوروبا الغربية، ولهذا كان ينبغي وضع معايير دقيقة لتعريف اللاجئ، وللتفريق بين من يستحق وضعية اللجوء، وبين من يحتال للحصول عليها.
واستطرد موضحًا: اللاجئ هو الشخص المُلاحق من الدكتاتورية لأسباب سياسية، والهارب من الحرب خشية القنابل المتفجرة أن تسقط على بيته وأسرته، هؤلاء لا يمكن رفضهم بموجب اتفاقية جنيف للاجئين التي وقعت عليها جميع دول الاتحاد الأوروبي، ولم توقع عليها أي دولة عربية، ولا حتى تركيا. جميع هؤلاء مُنحوا وضعية اللجوء في إطار الممكن، وجميع الأمهات اللاتي فقدن أزواجهنّ أو أطفالهنّ في الحرب تلقيّن المساعدة.
في المقابل، كان هناك جوازات سفر سورية مزوّرة، وجزائريون قدموا أنفسهم على أنهم سوريون. وجاء إلى بلغاريا رجل من أفغانستان متزوج من أربع نساء، ولديه ثلاث وعشرين طفلًا، وسأترك هذه الحادثة بلا تعليق. كما دخلت هولندا مجموعتان من اللاجئين العراقيين من تكريت، واحدة من أنصار “داعش”، والثانية من “الحشد الشعبي”، المجموعة الأولى قتلت العديد من الشيعة، والثانية قتلت العديد من السنّة، وكانت النتيجة أن السلطات الهولندية طردت الفريقين. وفي مركز لجوء بالقرب من بروكسل كان هناك فريقان: أحدهما يغني لـ (داعش)، والآخر لبشار، ويتعاركان باستمرار، فتمّ ترحيلهم. أعتقد أن من يخالف القوانين، ويحتال على السلطات من أجل الحصول على التأمينات الاجتماعية، ومن تورط في جرائم ضد شعبه، هؤلاء لا يستحقون أن يُمنحوا وضعية اللجوء على الإطلاق.