تُطرح اليوم داخل سورية، على نحو خجول، مسألة إلغاء مواد “التربية الدينية” والقومية” من المناهج الدراسية، ويقترح البعض استبدال مادة “التربية الدينية” بـ “الأخلاق”، و”القومية” بـ “التربية الوطنية”، والعديد ممن يطرحون إلغاء “التربية الدينية” من المدارس يسارعون إلى نفي تهمة “معاداة الدين” عن أنفسهم، وهي تهمة ما زالت سيفًا يشهره المتطرفون الدينيون، وما أكثرهم! في وجه كل من يختلف معهم!
تلك طروحات إيجابية، ومع ذلك، لا يجب على أحد المسارعة إلى تبرئة نفسه من تهمة “معاداة الدين”، التي كثيرًا ما تقترن بطرح “إلغاء التربية الدينية” من المدارس.
فالمطالبة بفصل الدين عن المدرسة هي جزء من المطالبة بفصل الدين عن الدولة ككل، التي تشكل بدورها إحدى أساسيات الطرح العلماني، فهل أصبحت “العلمانية جريمة” تجب المسارعة إلى التبرؤ منها؟ هذا أولًا…
أما ثانيًا، ففي الجهة المقابلة، الإسلاميون عادة يجاهرون ويفاخرون بأعلى أصواتهم بـ “العداء للإلحاد ومحاربته”، فلماذا يقوم كثيرون من أصحاب الاتجاهات الفكرية والمعتقدية الأخرى دومًا بالتركيز على قضية “عدم معاداة الدين”، والتبرؤ منها وكأنها جرم شائن!
إذا كانت معاداة الدين جريمة شائنة، فإن معاداة الإلحاد ومحاربته هي أيضًا جريمة شائنة.
لكن ليس المطلوب معاملة هؤلاء “الإسلاميين” بالمثل والعمل بأساليبهم بالطبع، حيث إن العمل بمعاييرهم ليس أكثر من تقديم فروض طاعة لهم، وهو ليس عملًا ديمقراطيًا حقيقيًا!
إن الاعتقاد هو شأن خاص، سواء آمن الشخص بالله أو ألحد، أو اتّبع دينًا ما أم لم يتبع، وهذا حق كامل يجب أن تحفظه الدولة للإنسان من دون أي انتقاص من حقوقه كمواطن! وهذا يعني أنّ من حق البعض المطالبة الصريحة بإلغاء “التربية الدينية” من مناهج التعليم! فهل يُعدّ هذا الإلغاء “معاداة للدين”؟!
إن إلغاء التربية الدينية من المدارس لا يعني إلغاء الدين من حياة الناس، وبإمكان المتدينين أن يعلّموا أبناءهم الدين في البيوت أو المعاهد الدينية ودور العبادة وسواها، ومن يطالب بإلغاء التربية الدينية من المدارس، لا يطالب بالمقابل بتدريس “الإلحاد” فيها.
هذه المطالبة تأتي في ثلاثة سياقات لا تنفصل عن بعضها البعض:
الأول هو أنها جزء أساسي من “الطرح العلماني” الذي يؤكد على الفصل بين الدين والدولة ككل، وهذا يقتضي الفصل بين الدين والمدرسة بصفتها مؤسسة رسمية، وإن كانت مدرسة خاصة من حيث الملكية.
الثاني هو أن الدين الذي ما زال يمارس في مجتمعاتنا ويدرس في مدارسنا حتى اليوم، هو شكل ديني مأزوم ويشكل استمرارية لتقاليد عصور الانحطاط الإسلامي، كما أنه ما يزال اتباعيًا، قِبلته هي السلف الذي عاش في الماضي البعيد في عالم جد مختلف عن عالمنا الراهن، وهو سلف بشري يُخطئ ويصيب، وله حسناته وعيوبه، وسواء أحسن أم أخطأ، فهو لا يجب أن يتحكم في واقعنا المعاصر، ويفرض حلوله لقضايانا فيه.
الثالث هو أن من حقّ من هو غير متدين ألا يتعرّض أبناؤه في المدارس لتربية دينية، لا يرى نفسه معنيًا بها، ويرى أن من الأفضل تدريس مواد أخرى كالأخلاق بدلًا منها، ولا سيّما أن الشكل السائد من الممارسة الدينية الراهنة الفاسدة بفساد واقعها العام، إما أن يحوّل الدينَ إلى مجرد طقوس ومظاهر شكلية منفصلة عن الأخلاق والفعل الاجتماعي البنّاء، أو أن يحوّله إلى تشدد وتطرف، ومن ثم إلى عنف تكفيري وصراع طائفي هدامين في كثير من الأحيان.
في حقيقة الأمر، إن موضوع إلغاء التربية الدينية من التدريس له رمزيته أكثر بكثير من الدور الواقعي الذي يمكن أن يلعبه، فإلغاء تدريس “التربية الدينية” في المدارس سيكون -إذا تمّ- إجراءً سياسيًا أكثر منه “تربويًا”، وسيكون خطوة واضحة في اتجاه العلمنة، وهذا ما يدركه معظم العلمانيين والإسلاميين، ولذلك يولونه الاهتمام.
فالعلمانيون يدركون جيدًا أن إلغاء تدريس التربية الدينية في المدارس الرسمية لن يحلّ المشكلة؛ حيث إن مراكز نشر التطرف والتزمّت اللذين يعانيهما واقعُنا بشدة، ليست المدارس الرسمية.
والإسلاميون يدركون بدورهم جيدًا أن “التربية الإسلامية”، التي يريدون لها الاستمرار والبقاء، لا تعتمد على المدارس، فمادة التربية الدينية في المدارس هي ليست أكثر من مادةٍ كسواها، وهي تدرّس في هذه المدارس كجزء من الروتين التعليمي، الذي يفيض بالكم والحشو على حساب المضمون التعليمي الحقيقي.
الطرفان يعلمان جيدًا، أن مؤسساتنا التعليمية، من المدارس حتى الجامعات، هي في وضع مزر، ولا يُعوّل عليها في وضعها الراهن لا في تربية دينية ولا في تربية علمانية، فالقطاع التعليمي في سورية، هو كغيره من القطاعات الرسمية وغير الرسمية الأخرى غارق اليوم في التردي والفساد.
الأمر -كما سلف- يتعلق بالرمزية، وكان من الممكن القول إنها رمزية ذات قيمة كبيرة، لو أن تغييرًا سياسيًا حقيقيًا يحدث على الساحة السورية، ويضعها على طريق التطور الصحيح نحو مستقبل معافى.
هذا لم يحدث بعد، وليس ثمة ما يدعو إلى التفاؤل بأنه سيبدأ في وقت قريب، فالسلطة الحاكمة سواء في المناطق التي بقيت تحت سيطرتها أو التي استعادتها، ما زالت مصرّة على متابعة سياستها السابقة في الاستبداد والإفساد.
هنا سيكون من العبث الكلام عن تغيير حقيقي على الساحة التربوية في واقع اجتماعي محيط لا يتغير، وبالتالي ليس منتظرًا من هذه السلطة أن تقوم بأي خطوة تغييرية في المناهج، ولا سيّما أنها في الآونة الأخيرة عادت إلى مغازلة الشارع الإسلامي، ومحاولة كسب وده وتأييده، بتقديم بعض التنازلات في اتجاه المحافظة الدينية، وهذا ما يظهر في بعض الإجراءات التي تأتي بين حين وآخر عن طريق وزارة الأوقاف.
هذه الأمور يجدها ذات قيمة كلٌّ من الإسلاميين المتعصبين الذي بقوا في خندق المولاة، والانتهازيين المتأسلمين، وجزء من بسطاء عوام المتدينين، وسيبدو الأمر، بالنسبة إلى هؤلاء، أو يبدى، بمنزلة تعزيز وتمكين للإسلام.
هذا بالمقابل يثير حفيظة غير المتدينين والعلمانيين، في خندق المولاة وخندق أشباه المعارضين والمعارضين الخجولين، الذي يرون فيه خذلانًا لهم من قبل سلطة الأمر الواقع، التي حتى لو أنها فعلت العكس، وألغت التربية الدينية من المدارس، واستبدلتها مثلًا بمادة الأخلاق، فلن يكون لعملها هذا أي أثر إيجابي فعلي، طالما أن تغييرًا إيجابيًا حقيقيًا لا يحدث في المجتمع والدولة.
أما إذا طرحنا هذا الموضوع في إطار مشروع وطني ديمقراطي حقيقي لمستقبل سورية -وإن كان هذا المستقبل المأمول ما يزال حلمًا صعب المنال- فمن الواجب عندئذ الإصرار على إلغاء التربية الدينية من المناهج الدراسية، وكذلك مادة “القومية” معها، على مستوى المدارس أو المعاهد أو الجامعات.
هذا كله ضروري لبناء الدولة الحديثة على أسس عقلانية إنسانية، والدين والقومية لا يحققان هذه الشروط، بل يتعارضان معها، وهما ينتميان إلى ميدان الإيمان والشعور والعاطفة، وينميان هوية الفئة بدلًا من هوية الوطن، مع ذلك فهذا لا يعني بالطبع أنهما ظاهرتان سلبيتان، لكن لكيلا يكونا كذلك، فيجب إحالتهما بشكل كامل إلى ميدان الشأن الخاص، حيث يستطيع كل شخص أن يقوم بأي نشاط ديني أو قومي أو سواه، كيفما يريد، ولكن بشرط عدم إلحاق أي أذى بالذات والآخرين والمجتمع والدولة.
ما قيل عن مستوى المناهج المدرسية يجب أن يقال قبلها، بصوت أعلى، على مستوى الدستور نفسه، فمن أجل حل سياسي اجتماعي جذري، وبناء دولة حديثة حقيقية، يجب ألا يتضمن الدستور أي فقرة دينية أو قومية، ويجب عدم ربط رئاسة الدولة أو مصادر التشريع بالإسلام، ولا ربط هوية الدولة بالعروبة، وهذه الدولة لن تصادر قطعًا إسلام المسلم ولا عروبة العربي، ولكنها لن تعطيهما أي دور في عملها المؤسساتي كدولة، ولا أي استثناء عن غيرهما في الحياة العامة، وبذلك تكون دولة عقل وعلم ومواطنة ومساواة تامة بين جميع مواطنيها.