(1)
باعتماد منهج (جدل الإنسان)، يكون الإنسان هو العامل الأساس في حركة التطور الاجتماعي، حيث يترتب على ذلك أن تأسيس الدولة يجب أن يتطابق مع حدود المجتمع الذي تكوّن تاريخيًا بالتطور المشترك، وأن الدولة أداة لتلبية حاجات اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، وتنظيمية، وقانونية في طور معين، وأن أي خلل في تطابق حدودها مع حدود (المجتمع) يحولهّا إلى أداة عدوان.
الدولة القومية ليست خالدة حتمًا، وليست زائلة حتمًا، لكن إذا وصل التطور الاجتماعي، في عدد من المجتمعات القومية، إلى حدّ يولّد حاجة جديدة إلى تنظيم سياسي، وقانوني، واقتصادي مشترك بين تلك الدول القومية؛ فإن الدولة التي تتطلبهّا تلك الحاجات تُصبح هي المطلوبة على صعيد قاري، فنكون أمام مقتضيات “الدولة القارية”، وربما في المستقبل على أساس إنساني شامل، وليس النكوص إلى ما دون الدولة القومية. وهذا يعيدنا إلى البحث عن أصل الحق، ومستند الشرعية في المجتمع ذاته، وليس في الدولة وقوانينها الوضعية، وحسب.
ولا بد إذن، عند البحث في القانون، من نسبته إلى مجتمع معين في طور معين، يقول رادومير لوكيل: “القانون ليس ظاهرة حقوقية منعزلة عن كل الوقائع الاجتماعية الأخرى، وإنما ظاهرة اجتماعية مرتبطة بشدة مع كل الظواهر الأخرى”(1).
نصل بعد هذا كله إلى أن المجتمع هو الذي يفرز الدولة بدستورها، وقوانينها، وأنظمتها، ومؤسساتها، ونقصد بالمجتمع هنا عنصرَي الدولة الأساسيين: الأرض (الوطن)، والبشر (الشعب)؛ وهنا يتبدى سؤال مهم: من يؤسس الدولة؟
يقول بوردو: “لا يمكن تصوّر السلطة في خصائصها الكاملة دون العودة، على الأقل ضمنيًا، إلى وجود الجماعة التي صُنعت من أجلها، والتي تنشأ الدولة عنها”(2). فمن المؤكد أن الدولة “لا تخلق الحق، ولكنها تعبّر عن أحكامه، كما تفرض نفسها في مجتمع معين، وفي لحظة معينة”(3).
ويُضيف بوردو: “إن الدولة منذ اللحظة التي يخلقها فيها الفكر تأتي مثل كل شيء خلقته القريحة الإنسانية متفقة مع مثالٍ ما. عندما يُفكرّ الأفراد في الدولة، فإنهم يرون فيها مؤسسة مهيأة للعمل تبعًا لبعض القواعد من أجل غاية يرتضونها، فالدولة تعكس أفكارهم”(4).
(2)
وبما أن الدولة تلبية لحاجة المجتمعات البشرية إلى التنظيم، فهي لا تأخذ شكلًا ثابتًا، وإنما تتجدّد مع تجددّ حاجات تلك المجتمعات، يقول بوردو: ” إذا كانت الدولة شيئًا مصطنعًا، فهي ليست متصورّة بشكل واحد إلى الأبد، إنها على العكس، خلق مستمر يتطلب من قبل الأفراد جهدًا فكريًا”(5).
وإذا كان الجهاز التأسيسي هو الذي يتبنّى الدستور. وغالبًا ما يختلط الجهاز التأسيسي بالجهاز التشريعي، كما يقول رادومير لوكيل، فمن أين يستمد هذا الجهاز التأسيسي مستند شرعيته…؟
يقول بوردو: “إن فكرة الحق تصدر عن اعتبارات خاصة بنظام اجتماعي منشود، كما يوجهّها نوع من التمثل للمستقبل. والسيادة قوة تولد من مجمل الظروف التاريخية والوطنية. وإن السمة الأساسية للسيادة هي امتلاك السلطة التأسيسية”(6).
ويُضيف: “بما أننا لم نعد نستطع الثقة بالخرافات، والعجائب، والمسيح المقدس. فإننا نطلب من بناء فكري عقلاني ما كان ينتظره الناس في العصور القديمة من الخرافة، أو من الميثولوجيا. لنقل بصراحة أكبر: إن فكرة الدولة جاءت تحلّ محل القوى الخفية التي يخضع لها ذهن القادة بفعل الفكر السحري. ومن الآن فصاعدًا، أصبح القادة أناسًا مثل الآخرين، ولكن السلطة مع ذلك تتبدل”(7).
(3)
يحاول بوردو أن يُفرّق بين الدولة التقليدية، والدولة الوظيفية، فالدولة التقليدية كانت تُعرف بمصدرها الذي يُضفي عليها الشرعية: من جعل منك ملكًا؟ من أين تأتي السلطة؟ ما هو سندها؟ من أين تتولد القوى التي تجسدها؟ بينما الدولة الوظيفية محكومة بلعبة منطقها الداخلي فقط. يقول بوردو: “ترفض الدولة الوظيفية المصادر الأساسية للطاقة السياسية. إن مبدأها متصل بالقناعة القائلة إن تطور المجموعات الإنسانية أدى في البلدان ذات المستوى العالي ثقافيًا، وتقنيًا، واقتصاديًا، إلى نمط من المجتمع تخضع قضاياه للتحليل والحساب، حيث لن تكون الدولة بحاجة إلى ولاية آمرة لأنها ستحكم بلعبة منطقها الداخلي فقط”(8).
لكن بوردو يعود في تحليله إلى تلك الدولة الوظيفية ذات المستوى العالي، فيسندها إلى المجتمع: “الدولة هي سلطة، وهذه السلطة هي الطاقة لفكرة معينة. والدولة الوظيفية هي كذلك سلطة، ولكن فرادتها تأتي من طبيعة، أو جوهر الفكرة التي تُجسّد هذه السلطة. تستند الدولة الوظيفية هي أيضًا إلى فكرة تجد سندها في المجتمع. إلا أن هذه الفكرة هي في الحقيقة ضرورة، فهي لا تنشأ من صورة يضعها الأفراد لمستقبل مرتجى، وإنما تتولّد مباشرة من البنى الاجتماعية القائمة تُستبعد منها أي ذاتية، إذ إنها لا تقوم إلا بتدوين المتطلبات الموضوعية التي يأمر بها سير العمل المنظم للمجتمع”(9).
حتى في هذا المجتمع المتطور جدًا، حيث العمل ينتظم بشكل آلي، وحيث الدولة تُسيّر الأمور ذاتيًا، فإن الدولة تبقى، كما يعترف بوردو نفسه: “هي الدولة فكرة، ولا يمكننا أن نندهش كونها تساوي بقدر ما تساوي الأذهان التي تتصورها”(10).
وهكذا، فإن الجهاز التأسيسي للدولة يستمد شرعيته من تطابق غايته مع غائية المجتمع، فيكون المستند الأول للشرعية هو تطابق حدود سيادة الدولة مع حدود المجتمع التاريخية، ويكون المستند الثاني هو نص المادة الأولى من الدستور التي تحدّد تلك الحدود (الوطن)، و(الشعب)، وهذا يعني أن الدستور ليس مستند شرعية الدولة، وإنما الوجود التاريخي للمجتمع هو مستند شرعية الدستور ذاته.
يقول رادومير لوكيل: “إن الأعمال الحقوقية الخاصة يجب أن تكون متوافقة مع مصادر الحق التي تُحدّد شكلها، ومضمونها. في حين أن الأعمال المادية يجب أن تتوافق مع الأعمال الخاصة التي تحكمها. لأن مبدأ المشروعية يوجب أن تكون كافة العناصر الدنيا من النظام الحقوقي متوافقة إلزاميًا مع ما هو أعلى منها. ويكون العمل شرعيًا إذا كان متوافقًا مع ما هو أعلى منه. ويكون غير شرعي (أو مضاد للحق) العمل غير المتوافق مع الأعمال الموضوعية فوقه في الترتيب، والذي يُشكلّ انتهاكًا لها”(11).
ويضيف لوكيل: “إن شيئًا هو غير مشروع، أو مشروع دون أن يبحث فيه عما إذا كان الحال هو كذلك حقيقة، لأنه يمكن دائمًا الغلط في تحديد ما هو شرعي أم لا”(12).
(4)
تتميز عملية تأسيس الدولة الحديثة بأن ملكية السلطة تُنسب إلى الأمة، أو الشعب، ولا تُنسب إلى الشخص المسيطر، سواء أكان إقطاعيًا، أو ملكًا، أو إمبراطورًا. يقول بوردو: “إن أقل ما يمكن أن يقال إن ثمة تمايزًا بين رئيس عصابة غزو بربرية، وسلطان إمارة في شبه الجزيرة العربية، ومليك جماعة إفريقية، وأقطاعي صغير من القرن الثالث عشر. لكن هذا التمايز لا يُغيّر كثيرًا المنحى الأساسي الذي يٌقرّب ما بين جميع أشكال السلطة هذه، ألا وهو أن الشخص الذي يقود يتمتع في آن معًا بممارسة السلطة وملكيتها”(13).
ويضيف: “دائمًا حيث يكون ثمة نظام إقطاعي تتقدم العلاقات الشخصية، والصلات الاجتماعية الفردية على القاعدة المجردة في تنظيم بنية الجماعة. الفرد يخدم سيده، ولا يمكنه خدمة فكره، فهو ليس شخصًا خاضعًا للقانون بقدر ما هو مولى الملك”(14).
بينما في الدولة الحديثة، فإن مستند الشرعية ليس في شخص الحاكم، فالحاكم الذي كان يحكم، ويملك في الوقت ذاته، هو الآن (موظف) لدى الدولة، وبالتالي لا بد من البحث عن مستند للشرعية في المجتمع ذاته، يقول بوردو: “إن ما يصنع القيمة التي لا تعوّض للشرعية هو أنها لا ترتبط لا بإرادة الذي يتمتع بها، ولا بقوّته. إنها تأتيه من الخارج، وبذلك تدعم السلطة بإعطائها سندًا أقل تعرضًا للعطب من الذي تجده في الصفات الشخصية لمن يمارسها. وباعتبار أن الشرعية هي تبدل حديث للسمة الدينية للسلطة، فإن الشرعية تعلمن أساسًا دون إضعاف صلابته، بما أنها تُحِل محل التنصيب الإلهي، التكريس القانوني”(15).
ويضيف بوردو: “الشرعية سلطة قائمة على الحق… إذا كانت السلطة الشرعية هي تلك التي ترتبط بالحق القائم في الجماعة. الحكام لا يجدون في ذواتهم مصدر مشروعيتهم، وعليهم التفتيش عن مصدرها في مكان آخر، هذا المكان الآخر هو السلطة التي هم وكلاء ممارستها، والتي تكون هي نفسها شرعية بالقدر الذي تنحدر فيه من المبادئ، أو من المعتقدات المقبولة من الجماعة. وبكلمات أخرى: إن شرعية السلطة التي يمارسون امتيازاتها هي التي تصنع شرعية الحكام. إن البحث عن الشرعية يؤدى بالضرورة إلى فصل السلطة عن الشخصية التي تمارسها. عندئذ تصبح الشرعية كيانًا مُجردًا كذلك هذا السند هو الدولة”(16)، لكن ما هو سند الدولة ذاتها…؟ يقول بوردو: “الشرعية أساس كل سلطة نظامية”. ويضيف: “طبيعة الدولة أنها سلطة، وهذا يعني أن أعمالها مُلزمة، ولكنها سلطة مجردة، وهذا يعني أنها لا تتأثر بالتبدّلات التي تطرأ على رجالها. إذا كانت تدوم هكذا على الرغم من التغيرّات التاريخية، فذلك لأنها تُجسّد الصورة عن النظام المنشود الذي أقمنا فيه أساس السلطة. الذي هو أساس الحق”(17).
(5)
وإذا كانت شرعية الدولة تتجسّد بقدر ما تجسّد الصورة عن النظام المنشود؛ فإن شرعيتها أيضًا لا بد أن تستند إلى عمق تاريخي مجتمعي متكوّن، يقول بوردو: “كم يشعر مؤسسو الدول الجديدة بضرورة تجذرها في ماض، وتثير الريبة لأنه في حال عدم وجود تاريخ فعلي، يواجه المستقبل وسط احتمال صنع تاريخ مع أعداء وراثيين، أو نزاعات محلية(18).
ويضيف: “إن الدولة يجب أن تكون قادرة على أن ترتفع فوق المصالح الخاصة، وأن تخدم مصالح المجتمع ككل. دون أن تكسر التضامن الذي يجمعهما مع هذا الميل الجماعي، أو ذاك”(19).
فالدولة إذن تلبي حاجات المجتمع في فترة زمنية معينة، وبما أن تلك الحاجات تتجدّد مع كل طور اجتماعي يمر به المجتمع، فإن الدولة، ومؤسساتها، عليها أن تجدّد نفسها لتتناسب مع الطور الاجتماعي الجديد. يقول هارولد لاسكي: “تحليل أي مجتمع سيكشف دائمًا عن وجود علاقة وثيقة بين مؤسسات المجتمع، وثقافته، وبين طريقة سد الرغبات المادية. فإذا تغيرت هذه الطريقة؛ تغيرّت مؤسسات هذا المجتمع وثقافته كذلك”(20)، حتى ميكافيللي ذاته لم ينظر إلى الدولة على أن لها شكلًا ثابتًا أبديًا، حيث قال: “إن التاريخ يسير في حلقات يتحللّ فيها شكل الدولة حتمًا، ويتحول إلى شكل آخر..”(21).
ويسخر هارولد لاسكي من أولئك الذين يعتقدون أن النظام الذي يقيمونه صالح لكل زمان ومكان، إذ يقول: “كل عصر يقيم صنمًا بصورته الخاصة، ويُضحيّ على مذبحه بحرية أولئك الذين يرفضون عبادته. على أن هذا الإنكار يُبنى في جميع الحالات على الأساس نفسه. فأصحاب السلطة يؤكدون دائمًا أن المبادىء والأعمال التي يهاجمونها، هدامة للنظام المدني.. فجوهر الاستبداد دائمًا هو اعتقاد المستبد بأنه يمتلك الحقيقة القصوى، وأنه يخون خدمتها؛ إذا سمح للآخرين بمناقشة هذا الصدق..”(22).
ويضيف لاسكي: “المدنية مليئة بأنقاض أنظمة كان الناس يؤمنون بصحتها في يومٍ ما، ولكنها في الوقت نفسه أنظمة أنكرت باسمها الحرية، وتسببّت من دون داع في آلام قاسية!”(23).
هوامش ومراجع:
(1) رادومير لوكيل – (الدولة والحق) – صفحة (33).
(2) جورج بوردو – (الدولة) – صفحة (49).
(3) و(4) و(5) المصدر السابق صفحة (52) وما بعد.
(6) المصدر السابق صفحة (63).
(7) المصدر السابق صفحة (77).
(8) المصدر السابق صفحة (183).
(9) المصدر السابق صفحة (175).
(10) المصدر السابق صفحة (189).
(11) رادومير لوكيل- (الدولة والحق) صفحة (555).
(12) المصدر السابق صفحة (579).
(13) جورج بوردو- الدولة صفحة (24).
(14) المصدر السابق صفحة (35).
(15) و(16) المصدر السابق صفحة (43) وما بعد.
(17) المصدر السابق صفحة (147).
(18) المصدر السابق صفحة (136).
(19) المصدر السابق صفحة (177).
(20) هارولد لاسكي – (الدولة في النظرية والتطبيق) – صفحة (122).
(21) المصدر السابق صفحة (86).
(22) و (23) هارولد لاسكي – (الحرية في الدولة الحديثة) – صفحة (201) وما بعد.