اعتبرت إيران نفسها أنها حققت “إنجازين” أخيرًا: الأول عبر تسريبات عن صفقة أجرتها مع الولايات المتحدة، عبر تمرير شحنة النفط التي تحتوي أكثر من مليوني برميل نفط، والتي انتقلت إلى ميناء طرطوس السوري، بعد وقف رقابة طائرة (درون) إسرائيلية لناقلة النفط الإيرانية (أدريان داريا 1)، مقابل الإفراج عن سبعة بريطانيين وسفينتهم التي استولت عليها البحرية الإيرانية بالخليج العربي. والإنجاز الثاني إقصاء جون بولتون، أكثر الدعاة إلى حرب فوضوية مع إيران وأهمّ الصقور في البيت الأبيض، ومستشار الأمن القومي الأميركي لدى الرئيس دونالد ترامب. وعلى الرغم من ذلك ما تزال الولايات المتحدة تمارس ضغوطات غير مسبوقة سياسية واقتصادية وعسكرية على إيران، ويستمر معها احتمال حصول حرب في الخليج العربي وآسيا الوسطى والشرق الأوسط، الذي ينطلق منه يوميًا عشرون مليون برميل نفط.
ويبدو أن الولايات المتحدة ترى فوائد في حدوث كارثة عالمية بهذا الحجم، أكبر بكثير من الأضرار التي قد تنطوي عليها مخاطر الوفاة لمئات آلاف الجنود، الذين قامت بتوزيعهم في هذه المنطقة. وهنا الأهداف الثمانية التي تسعى إليها واشنطن، بغض النظر عمّن يحكم البيت الأبيض:
الهدف الأول: استعادة الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة، وإنشاء نظام عالمي جديد
بدأ العهد الانفرادي للولايات المتحدة بالهيمنة على العالم عام 1991، نتيجة تفكك الاتحاد السوفييتي، ونهاية الحرب الباردة، وإعلان الحرب على العراق إثر غزو الكويت عام 1990، ولكن هذا العهد كان قصيرًا جدًا، لم يمنح الولايات المتحدة الفرصة للسيطرة الكاملة على العالم، فقد انتهى في تموز/ يوليو 2001، نتيجة تشكيل منظمة شنغهاي للتعاون، حيث أبرمت الصين وروسيا شراكة استراتيجية تضم القوّتين، على غرار الالتزام الذي حافظوا عليه في عهد ستالين وماوتسي تونغ. بعد ذلك بشهرين، حدثت هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، لتحتل الولايات المتحدة، تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، بـ 300 ألف جندي أميركي، البلد الأكثر إستراتيجية في العالم أفغانستان، التي تقع في قلب آسيا الوسطى، وهي منطقة ذات نفوذ صيني روسي هندي إيراني باكستاني، ثم ظهرت رابطة اقتصادية جديدة بعدها هي البريكس، أوسعت نفوذ القوتين الأوراسيتين لتشمل دول أميركا اللاتينية وإفريقيا، لتقوم الولايات المتحدة بالانقلاب على ديلما روسيف، رئيسة البرازيل وزعيمة حزب العمال البرازيلي، واعتقال لولا داسيلفا، وتثبيت نظام فاشي في هذا البلد، في محاولة أخرى لإجهاض ولادة عالم متعدد الأقطاب.
يحدث التهديد الحالي لإيران ليس في حدودها البرية الشاسعة، ولكن في مياه الخليج العربي، حيث تشتري الصين نصف احتياجاتها النفطية من العالم، وطورت مبادرة طريق حرير جديد، وهو مشروع بنية تحتية ضخم فريد من نوعه في تاريخ العالم، لخدمة اقتصادها وقوتها، وعلى الرغم من هذه العوامل، لن تضع الصين قوتها لمساعدة إيران والوقوف لجانب بلد لا يمثل سوى واحد بالمئة من تجارتها، وبالتالي لا مصلحة لها في ذلك، مقارنة مع الولايات المتحدة التي تعد الشريك التجاري الأول للصين.
الهدف الثاني: إعادة تكوين خارطة الشرق الأوسط
أظهر سقوط شاه إيران عام 1979، للولايات المتحدة أن أنظمة الدمى يمكن إسقاطها من قبل شعوبها الغاضبة، لتكون إستراتيجيتها الجديدة على أساس ثلاث نقاط: الأولى تمزيق الدول الكبيرة. والثانية تحويل الدول الصغرى إلى مستعمرات عسكرية. والثالثة الاحتفاظ بتلك الدول الصغرى بعد غزوها، كأراض من دون دولة .
في حالة إيران، نجد أنها دولة تبلغ مساحتها 648 ألف كيلومتر مربع، وتملك أول احتياطي للغاز في العالم والرابع في النفط، وتضم حوالي 12 مجموعة إثنية يشكلون حوالي 55 بالمئة من السكان، وعلى الرغم من أن لديهم مطالب قومية، ولإقامة دولة فيدرالية، فهم لا يتمتعون بالحد الأدنى من الاستقلال الإداري. ظهرت خطة الولايات المتحدة “للاستيلاء على إيران” عام 1980، بموجب مبدأ “الاحتواء المزدوج” الذي كان هدفه منع التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري لكل من إيران والعراق، لمصلحة “إسرائيل”، وللقيام بذلك، سلحوا كلا الفريقين لتدمير بعضهم البعض في حربهم الطويلة التي استمرت ثماني سنوات (1980-1988)، ثم استمروا في هدم العراق حتى غزوه العسكري عام 2003، وبمجرد تحويل العراق إلى كومة من الأنقاض، ذهبوا إلى إيران. وفي الواقع، كان تفكيك الدولة السورية العضو في ما يسمى “محور المقاومة” ضد “إسرائيل”، والحليف الوحيد لطهران، الإعداد الأخير للحرب ضد إيران التي تورطت في المستنقع السوري منذ بداية الثورة السورية عام 2011. كما يتضمن المشروع تغيير خارطة المنطقة، لالتهام ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وتفكيك كل من تركيا والسعودية.
الهدف الثالث: قوة وضغط المجمع الصناعي العسكري الأميركي
تستمر الصناعة العسكرية الأميركية في الفوز بحصة الأسد في الأعمال التجارية الأميركية، فالمجمع الصناعي الأميركي لا يصنع الأعداء فحسب، بل يمنح الفرصة لعملائه كي يتسنى لهم التخلص من الأسلحة المشتراة، وتجربة أسلحة جديدة على أرض الواقع، في سيناريو حقيقي، فهو يدفع لتغذية الحروب، و36 بالمئة من صادرات الأسلحة بالعالم عام 2018، جاءت من الولايات المتحدة وحدها، والأموال الإضافية التي يكسبونها من تلك الصادرات التي بلغت قيمتها 700 مليار دولار، ستبلغ 750 مليار دولار عام 2020، كما يعرف الجميع أن أحد أسباب إقالة وزير خارجية ترامب “ريك تيلرسون”، أنه ادعى بسذاجة بأنه مع مرور الوقت “ستكون هناك نزاعات مسلحة أقل”، وأن بلاده تقوم بتصنيع “سلاح نووي جديد أقوى بكثير من قنبلة هيروشيما”. وترامب نفسه في مقابلة مع قناة (فوكس نيوز) في 20 أيار/ مايو 2019، قال إن “هذا المجمع هو من يطلب المزيد من المعارك والنزاعات، ويجبر الولايات المتحدة على إبقاء قواتها في سورية، لمواجهة إيران كهدف لها”، فيما زاد استيراد السعودية للأسلحة الأميركية بنسبة 225 بالمئة مقارنة مع عام 2008، ويعود ذلك جزئيًا إلى الحرب غير المجدية في اليمن، واستخدام الفزاعة الإيرانية التي تتوغل في العالم العربي، ويجب على الولايات المتحدة اليوم أن تفسح المجال لبيع المزيد من الطائرات والصواريخ والقنابل والرصاص الذي يباع للعرب، بحيث تعود البترودولارات مع عمليات الشراء الجديدة إلى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
الهدف الرابع: حاجة الولايات المتحدة إلى تصدير النفط والغاز
تحولت الولايات المتحدة عام 2019 إلى أكبر منتج للهيدروكربونات بالعالم، كما أن إدارة ترامب لديها إغراء أقل للاستيلاء على مصادر الطاقة من الوقود الأحفوري من دول أخرى، وتميل إلى الاستيلاء على قوائم عملائها، في محاولة لطرد كبار المنتجين من السوق، سواء عن طريق ممارسة العقوبات الاقتصادية المباشرة أو غير المباشرة، كما حصل ويحصل مع فنزويلا وإيران وقطر وروسيا، وهكذا فإن الصين والهند أكبر المشترين للهيدروكربونات في العالم، وسيعتمدون على الذهب الأسود الأميركي، وهذا يضمن هيمنتها على العالم.
الهدف الخامس: الحرب كوسيلة لتصدير الأزمة الداخلية عشية الانتخابات الرئاسية 2020
يحتاج ترامب إلى الحرب للتغطية ليس فقط على فضيحة “روسيا غيت”، فضلًا عن الفضائح الجنسية، بل هناك ما يسمى “الترامبونوميكس”، بمعنى السياسة الاقتصادية الترامبية الفاشلة، فقد حققت نسبة نمو وصلت إلى 6 بالمئة، مقابل 3.1 بالمئة بعهد أوباما، وتستند نسبة النمو هذه إلى التخفيضات الضريبية، وإعادة هيكلة الاتفاقيات التجارية، وتطبيق تدابير التحفيز المالي، وقد أعطت نتائج كارثية ومتوقعة منها :
أولًا: ركود الاستثمار، فلم يستثمر رواد الأعمال ما وفروه في الضرائب، بل زادوا عدد أسهمهم في الشركات.
ثانيًا: شجعت الحروب التجارية ضد المكسيك وأوروبا والصين، وقانون الضرائب نفسه الذي يقترح حوافز للشركات التي توسع عملياتها في الخارج، على نقل الإنتاج خارج الولايات المتحدة، مثل مصنع الدراجات النارية هارلي ديفيدسون.
ثالثًا: لم يشتر العالم المنتجات الأميركية الصناعية، كما توقع ترامب، وهذا من بين الأسباب الأخرى للتباطؤ الاقتصادي العالمي، ولم يتم إلغاء الدين الفيدرالي، كما وعد الرئيس الملقب بـ “رجل التعريفة”، كما حصلت الولايات المتحدة على الفجوة الأعمق في تاريخها عام 2018، إذ استوردت بقيمة 217.7 مليار دولار، وصدّرت 148.9 مليار دولار.
رابعًا: يُظهر الاقتصاد الأميركي علامات الركود، ويتوقع البنك الاحتياطي الفيدرالي نموًا بنسبة 2 بالمئة عام 2020، مع انخفاض النمو في التوظيف وإنتاج السلع، وسيكون ترامب أول رئيس للولايات المتحدة منذ ستين عامًا، يترشح لانتخابات الإعادة على تدهور اقتصادي في عهده، فضلًا عن انحرافاته الجنسية وفضيحة “روسيا غيت”. وقد انتقد السيناتور الأميركي بيرني ساندرز السياسات الخاطئة للديمقراطيين الأميركيين الذين ركزوا فقط على تشويه سمعته، دون التركيز على تهوره الاقتصادي.
وقال ساندرز: إن عدم المساواة بين الفقراء والأغنياء غير مسبوق منذ عشرينيات القرن الماضي، حيث إن أغنى ثلاثة أشخاص في الولايات المتحدة لديهم ثروة تعادل أكثر من 160 مليون مواطن أميركي، وبسبب التخفيضات في البرامج الاجتماعية، زادت ثروة أغنى خمسة أشخاص بالولايات المتحدة أكثر من 100 مليار دولار، بينما ارتفع متوسط راتب العامل بنسبة 1.2 بالمئة عام 2018، أي حوالي تسعة دولارات في الأسبوع. وبلغ معدل البطالة الرسمية والعمالة الناقصة 3.9 بالمئة، وهي في الواقع بلغت 20 بالمئة، وبالنسبة إلى الشباب الأميركي من أصل أفريقي فقد وصلت نسبة البطالة إلى نحو 40 بالمئة، إذ ضاعف الرئيس العنصري فجوة الثروة بين المواطنين السود والبيض، ثلاثة أضعاف، خلال الخمسين سنة الماضية.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فما يزال الرئيس الفنزويلي مادورو على رأس السلطة، وما زالت كوريا الشمالية تحتفظ بأسلحتها النووية، كما كانت الحرب التجارية ضد الصين كارثة على المنتجين الأميركيين، في حين ما زالت إيران ترفض التوقيع على اتفاقية نووية ثنائية مع الولايات المتحدة، تستثني فيها الروس والصينيين والأوروبيين، كما يطالب ترامب، على الرغم من تهديداته بشن حرب عليها.
الهدف السادس: عودة المحافظين الجدد إلى البيت الأبيض، بعد غياب قصير خلال فترة الرئيس الأميركي باراك أوباما
تجسدت روح رامسفيلد وتشيني، في جثتي بومبيو وبولتون، “وقد أقيل الأخير أخيرًا”، وما زالت مطالب نتنياهو والسعودية لترامب بقصف إيران واضحة للعيان، فضلًا عن ثقل اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة المعروف بتأثيره على سياسات البيت الأبيض، من خلال جاريد كوشنر صهر ترامب، الذي أنقذه من الإفلاس، وقام بتمويل فنادقه حول العالم، ففي عام 2017 دفع السعوديون 500 ليلة في فنادق ترامب، الفضيحة التي تأخذ الرئيس وحدها إلى المحكمة، لتلقيه مدفوعات لا داعي لها من الحكومات الأجنبية، وهو الأمر الذي ينتهك الدستور.
الهدف السابع: الصدام الذي لا مفر منه لتوسعة القوى الرأسمالية في المنطقة
تشكل كل من السعودية وتركية وإيران و”إسرائيل”، هذه القوى الرأسمالية في المنطقة، حيث المعارك من أجل النفط والأراضي والمياه والغاز والأسواق هي محور هذا الصراع حتى الموت، وإلى يومنا هذا كانت “إسرائيل” هي الفائزة، بفضل الحروب التي خاضتها كل من الولايات المتحدة وأوروبا، فتمكنت من تفكيك أعدائها الرئيسيين: العراق وسورية وليبيا، والآن تتوجه إلى إيران، عبر عمليات الطيران الإسرائيلي التي استهدفت المقار العسكرية الإيرانية في سورية وأتباعها في العراق وحلفائها في لبنان واليمن، وبعد أن ساهمت إيران بقوة في هدم تلك الدول وتدميرها، تقوم اليوم “إسرائيل” باستكمال الهدم ضد إيران التي يبدو نهاية دورها كشرطي المنطقة منذ الشاه الإيراني، ونظام الملالي في طهران، فضلًا عن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية مع إيران، وهو ما يؤكد أن عملية هدم إيران الغارقة في المستنقع السوري، قد بدأت فعليًا، فالميزانية العسكرية لإيران عام 2018 وصلت إلى 6.3 مليار دولار، بينما وصلت ميزانية “إسرائيل” إلى عشرين مليار دولار، عدا ثمانين رأس نووي محتمل، وميزانية السعودية وصلت إلى 76.7 مليار دولار، دون ذكر ميزانية أعضاء الناتو، ولا حتى الولايات المتحدة ذاتها. فإذا حصلت حرب بالنهاية؛ فالمترددون اليوم لن يفوّتوا حفل توزيع الغنائم.
الهدف الثامن: إعطاء صورة من النوع الصعب والمخيف للغاية
قصفت الولايات المتحدة كلًا من سورية واليمن وأفغانستان وليبيا، ويقوم ترامب بتفكيك أي دولة بهيكلها التقليدي، وإغلاق السفارات، ومنع مواطني دول عربية وإسلامية من دخول الولايات المتحدة، لكن البنتاغون اليوم بلا مخرج من الأزمات العربية والشرق أوسطية، وترامب الذي يخطط لحرب فوضوية على إيران، يبحث عن تفاوض غير معلن أو معلن معها، فيما يبقى منصب وزير الدفاع الأميركي الجنرال ماتيس شاغرًا، ومن يعلم! قد يلجأ ترامب إلى الحرب على إيران في أي لحظة، عندما يفقد سيطرته على السلطة في البيت الأبيض، أو سيكون مهتمًا بتأجيل قرار الحرب على إيران إلى ما بعد الانتخابات، أو ربما يفقد أعصابه فيقرر قراره النهائي.
فالرئيس الأميركي دونالد ترامب لا يملك خطة (بي)، في مواجهة دولة إجرامية هي إيران التي تتمدد بالمقابل كالأخطبوط في العالم العربي. وتساهم في تدمير أهم الحواضر العربية عبر التاريخ: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.