( 1 )
“الدولة” حاجة إنسانية تعكس في أسسها وتأسيسها، شكلًا وموضوعًا، تطور المجتمعات الإنسانية، وبالتالي فإن الدولة لا تدوم على حال، وإنما ترافق في تطورها تطور المجتمعات، و”إن لكل عصر دولة وسلطانًا”، لكن لا بد هنا من التمييز بين تأسيس الدولة بحدودها الجغرافية والبشرية، وبين تأسيس النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الدولة. وبالتالي التمييز بين شرعية تأسيس الدولة بحدودها الجغرافية، وبين مشروعية النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يحكمها وشرعية مؤسساتها الدستورية والقانونية، فقد نكون أمام تأسيس مشروع لدولةٍ ما، بمعنى التطابق بين حدود الدولة، وحدود المجتمع الجغرافية والبشرية، فهي دولة مشروعة من هذه الناحية، لكن قد تنتهي هذه الدولة ليتحكّم فيها مستبد فرد، أو عصابة من المستبدين، أو طبقة من المستغلين، أو مؤسسات لا شرعية، لكن هذا كله في حال حدوثه لا ينال من شرعية تأسيس الدولة بحدودها الجغرافية والبشرية، وستنحصر المشروعية، أو عدمها، هنا في الركن الثالث من أركان الدولة، وهو ركن (السلطة)، بينما سنكون أمام توفر مستند الشرعية للركنين الأساسيين الآخرين اللازمين لتأسيس الدولة: (الشعب) و(الوطن). وحتى (علة) عدم الشرعية في (السلطة) -في هذه الحالة- سينحصر وجودها في (السلطة ذاتها مؤسسات وقوانين)، وليس في مستند مشروعيتها. إن توفر مستند الشرعية للعاملين الأولين: (الشعب، والوطن) يوفر المستند لشرعية للسلطة، لكن في حال حصول خلل في السلطة، فإن هذا الخلل ينحصر في ذات السلطة، أو في أحد جوانبها، أو مؤسساتها، وإن حل مشكلة المشروعية، هنا، يتم بمعالجة (الجزء المصاب)، سواء أكان مؤسسة تنفيذية، أم قانونًا، أم تنظيمًا معينًا.
هذا يعني أننا في مثل تلك الحالة نكون أمام دولة مشروعة لتوفر المستند الشرعي لأركانها (الوطن، الشعب، السلطة)، وهذا لا يعني بالتبعية أن السلطة ذاتها ستكون في هذه الحالة سلطة مشروعة قانونية، فهذا يعتمد على تحقيق التراتبية المتسلسلة للقوانين والأنظمة والمؤسسات، بدءًا من الدستور، وانتهاء بالأوامر الإدارية البسيطة من جهة، وبتطابق غاية هذا النظام القانوني برمته مع الطور الاجتماعي التاريخي الذي يمرّ به المجتمع، ومقدرته على تحقيق أمنه وتماسكه وفتح السبل أمام تطوره، والتحقيق الفعلي والواقعي للشروط والأركان التي يتحدثون عنها في القانون الخاص، والعام، والدولي. المتعلقة بالمساواة والعدالة، والنفاذ، والإلزام. وأي خلل في هذا النظام، أو السلطة، يتطلب ما يوازيه من الفعل القانوني، والاجتماعي، والسياسي لحله، فالمخالفات المتواضعة يحلها رجال الشرطة، ومخالفات المرور يحلها رجال شرطة المرور، والاعتداء الجنائي يحل مشكلته جهاز القضاء الجزائي، والاعتداء المدني يحله جهاز القضاء المدني، والمخالفات الإدارية يحلها القضاء الإداري، وهكذا، وصولًا إلى طبيعة النظام القانوني، والسياسي، والاجتماعي، ودستورية تمثيله للمجتمع في الحالة الراهنة، حتى الدستور نفسه يمكن أن يكون، في لحظةٍ ما، قاصرًا عن التعبير، والتلبية للحاجات المتنامية للمجتمع، فيجب تغييره لتلبية تلك الحاجات إما بالوسائل الواردة فيه، إذا كان ذلك ممكنًا، وإما بالوسائل الأخرى.. هكذا فإن حل مشكلة (اللامشروعية) في ذات السلطة قد يتطلب في بعض الأحيان عملًا بسيطًا، وقد تقتضي الحاجة في أحيان أخرى إلى ثورة شاملة، أو عملًا “ما” بينهما، لكن هذا كله لا يطال البنية الأساسية الشرعية للدولة، فالأرض هي الوطن، والبشر (هم الشعب)، والمستند الشرعي للسلطة متوفر، وينحصر الحل بحجم (الإصابة). فالنظام الرأسمالي يمكن أن يتحول إلى اشتراكي، والاستبداد تحل مشكلته بالديمقراطية، والتجاوز على القانون تُحلّ مشكلته بفرض احترام القانون، ومشكلة التخلف تُحل بالتنمية، ومشكلة التبعية بالاستقلال، ومشكلة الأمية بالتعليم. وهكذا. وفي حالة الاستعصاء يكون الحل بالثورة الشاملة..!
( 2 )
هذا يعني، في هذه الحالة تحديدًا، أننا أمام دولة مشروعة، لكن السلطة المتمثلة بالنظام السياسي، والنظام الاقتصادي، والنظام الاجتماعي، والنظام القانوني. قد تكون بمجملها، أو بعضها مشروعة، أو لا مشروعة.
أما في حالة اختلال ركني (الوطن، والشعب)، عند تأسيس الدولة بمعنى (الانتقاص أو التعدي)، فإننا في هذه الحالة نكون في مواجهة دولة لا مشروعة في أساس كيانها، وتكوينها، وهذا يؤدي إلى لا مشروعية السلطة بكاملها، فالخلل هنا ليس في ذات السلطة، ومؤسساتها، وإنما في مستند شرعية وجود الدولة الأساسي، وأي حديث عن منظومتها القانونية، وأنظمتها الاقتصادية، والسياسية، رأسمالية، اشتراكية، جمهورية، ملكية، استبدادية، ديمقراطية، كل هذا لا يحلّ مشكلة (مشروعية)، ولا يؤثر، ولا يُغيّر من لا مشروعيتها، فهي اعتداء على المجتمع، إذا كانت تنتقص من ركني الوطن، والشعب، وهي عدوان على الغير، إذا كانت تتعدّى على وطن الغير، وشعب الغير.
هذا يقودنا إلى الحديث عن هيئة المؤسسين للدولة بالتحديد، شرعيتها، ومشروعية ما ينتج عنها من دولة، ومؤسسات.
قلنا إن الدول لا تولد فجأة، وإنها تتشكل في كل طور اجتماعي كنتائج لمقدمات حدثت في الواقع تتحول -مع الزمن- إلى مقدمات لتنتج دولًا جديدة. وهكذا. وقلنا إن الدولة أداةُ تنظيم الجماعة، أو المجتمع في ظرفٍ ما، من الزمان.
وهكذا، فإن الدولة الجديدة تتكوّن في رحم الدولة القائمة، وتولد من الأوضاع السائدة، وعندما تحين ساعة الولادة الحاسمة، تصرخ الدولة القائمة صرختها الأخيرة، بينما تصرخ الدولة الوليدة مُنذرة بالقدوم، وهي تحبو على طريق بناء شخصيتها، وهيكل مشروعيتها الجديد.
( 3 )
بما أن الدول والأوضاع الاجتماعية متنوعة تنوعًا شديدًا، فإن الدول الجديدة تتم ولادتها بتنوع شديد، وتأخذ أشكالًا وألوانًا تتناسب مع هذا التنوع، وبالتالي، فإن هيئة المؤسسين تختلف، شكلًا وموضوعًا، من مجتمع إلى آخر، ففي حالة وجود الوطن، والمجتمع تحت الاحتلال الخارجي فإن الهيئة التي تقود حرب التحرير تتحول إلى هيئة تأسيس الدولة المتحررة، وفي بعض الأحيان يُنسب تأسيس الدولة إلى قائد عسكري، أو إلى مفكر سياسي، وفي أحيان أخرى تنهار إمبراطورية ما؛ فتنهض المجتمعات التي كانت تشكلها، وتفرز بطرق مختلفة وسائل تأسيس دول مستقلة، وفي ظروفٍ ما، تكون الثورة، وهيئة قيادة الثورة، هي ذاتها هيئة المؤسسين للدولة الجديدة، وهكذا.
فما هو إذن معيار الشرعية الذي يمكن إسناد تأسيس الدولة إليه؟!
إن معيار شرعية تأسيس الدولة لا يكمن في طريقة تشكيل هيئة المؤسسين، لإن تأسيس الدولة كما أشرنا يتم بطرق متنوعة لا تتيح في أغلب الاحيان انتخاب مؤسسة تأسيسية لأن المجتمع يكون في حالة اضطراب وانتقال، كما أنه لا يكفي أن تكون هيئة المؤسسين مكونة من أفراد ينتمون إلى المجتمع، فقد تحكمهم رؤى متخلفة عن حاجات المجتمع في الطور التاريخي المحدد لتأسيس الدولة، حيث لا تحيط تلك الرؤى ببنية المجتمع، فتؤسّس دولًا عنصرية، أو طائفية، أو قبلية، بينما يكون المجتمع قد تجاوز المرحلة الشعوبية، والقبلية، واكتمل تكوينه القومي.. أو قد تكون تلك الهيئة المؤسسة للدولة مرتهنة بالتبعية لقوة خارجية، فتؤسس دولًا لا تلبي الحاجات الاجتماعية، والقانونية، والسياسية، والاقتصادية للمجتمع، وإنما تلبي مصالح الدول الأجنبية، كما فعل الاستعمار في أرجاء الأرض، حيث شكّل من أهل البلاد الواقعة تحت الاستعمار هيئات تأسيس لدول لا تخدم إلا مصالح المستعمرين، وأضفى على عملية التأسيس كلّ مظاهر التأسيس الشرعية، ثم أخذ بيد تلك الدول إلى هيئة الامم المتحدة، وأصبح الدفاع عنها “دفاعًا عن الشرعية الدولية”، وهكذا فإن الاستعمار يستطيع أن يجنّد العالم، و(شرعيته الدولية) للدفاع عن مصالح المستعمرين، في مواجهة حركات التحرر القومي، وحقها في تقرير المصير (القومي)، وتأسيس الدول (القومية) في مختلف أرجاء العالم.
( 4 )
إن معيار شرعية تأسيس الدولة إذن لا يكمن في طريقة تشكيل هيئة المؤسسين، وإنما تكمن في باعث تأسيس الدولة، وغائية هذا التأسيس. أما مستند شرعية الباعث على تأسيس الدولة، فهو واقع التكوين التاريخي لعنصري (السكان)، و(الأرض) في لحظة تأسيس الدولة، وتطابق هذا التأسيس مع ذلك الواقع التاريخي.
وبما أن الإنسان هو العامل الأساس في التكوينات البشرية، بدءًا من الجماعات البشرية الصغيرة (الأسرة، القبيلة، العشيرة) وصولًا إلى المجتمعات الأوسع: (الشعوب، الأمم)، وانتهاء إلى المجتمع البشرى برمته. وبما أن الإنسان كائن متطور بفعل قانونه النوعي (جدل الإنسان)؛ فإن تأسيس الدولة على نحو ينتقص من الوجود التاريخي للجماعة، أو المجتمع في تلك اللحظة، هو تأسيس غير مشروع؛ لأنه يفرض على المجتمع نظامًا قانونيًا وسياسيًا واجتماعيًا، تجاوزه هذا المجتمع خلال مراحل تطوره، وبالتالي فإن هذا النظام يعوق تطوره عوضًا من أن يُشبع حاجاته إلى مزيد من التطور، فعندما نكون أمام أمّة مكتملة التكوين القومي، فإن تأسيس أي دولة، تنتقص من هذا التكوين وتجتزئ (شعوبًا أو قبائل أو طوائف أو أسرًا) لاصطناع دول، يفتقد مشروعيته، ويندرج مع نتائجه في قائمة العدوان على المجتمع، والواقعة الجرمية، وبما أن الانسان كائن متطور، فإن نزوعه الاجتماعي باتجاه التوسع والشمول، وبالتالي فإن السلطة ترافق هذا التطور، ولا بدّ أن تنتقل السلطة من طور إلى طور أعلى، بحسب تطور الجماعات، والمجتمعات البشرية، وبقدر ما تتجاوز تلك المجتمعات مرحلة تاريخية إلى مرحلة أرقى، يتفاقم التناقض بين المجتمع وبين التنظيم السياسي والاجتماعي السائد، ويتم حلّ التناقض بالانتقال إلى تنظيم سياسي يطابق المرحلة التاريخية الجديدة، وهكذا.. وبما أن الإنسان متطور أبدًا، فإن الدولة متطورة أبدًا. فالدولة القومية هي الدولة الشرعية في الأمة مكتملة التكوين، وستصبح الدولة القارية هي الدولة الشرعية عندما تتداخل العلاقات الاجتماعية، وتستقر تاريخيًا بين عدد من الأمم (الأمم الأوروبية) وقد تتطور البشرية لتصبح الدولة العالمية هي الدولة الشرعية، وقد تتغير وظائف الدولة وشكلها ومضمونها، جزئيًا أو كليًا، حسب الحاجة، المهم أن الدولة هي تلبية لحاجة بشرية، ومشروعيتها مستمدة من تلبية هذه الحاجة، وأي تقصير أو تعد يحولها إلى واقعة يجب أن تزول وتفسح المجال لأداة تنسجم مع تلبية تلك الحاجات.
( 5 )
أما مستند شرعية الغاية من تأسيس الدولة، فهو أن تكون الغاية من تأسيس الدولة هي تنظيم المجتمع، وتنظيم استثمار موارده، وحل مشكلات الصراع الاجتماعي داخله قانونيًا، لتتجه الجهود إلى مزيد من التنمية والبناء والأمن وتلبية الحاجات، وهذا يعني أن تأسيس الدولة لخدمة مصالح دولة، أو دول أخرى. هو شكل من أشكال السيطرة والاستعمار على المجتمع بواسطة (دولة خادمة)، وبالتالي يعني أننا أمام دولة واقعية غير مشروعة. باختصار شديد: يجب أن تكون الغاية من تأسيس الدولة تلبية حاجات مجتمع الدولة، وليس خدمة مصالح الغير -أيا كان هذا الغير- أو تلبية أطماع الغير في ذلك المجتمع، وإلا فإن الدولة تكون مجرد قاعدة لإكراه المجتمع، وتنظيمه (قانونيًا) ضد نفسه لخدمة الاحتلال الأجنبي، وقمع حقه في تقرير المصير؟ ووضعه في خدمة هذا الغير الأجنبي.
فكيف تأسست الدول التي يحتشد ممثلوها اليوم في هيئة الأمم المتحدة؟!