بينما تستمر الكارثة السورية في تعقد مساراتها، تواصل السياسة الدولية تكثيف أدوار اللاعبين الدوليين والإقليمين في تقرير مصيرها كلية وجزئيًا؛ كلية في مرجعية تحديد شكل الوجود السوري في محيطه الحيوي الإقليمي والعربي والدولي، بتنافس مرة وتوافق مرات، حول مرجعية تحقيقه “السوتشية” الروسية أو جنيف الأممية، وربما بتوليفة ما بينهما مفادها “ما فوق سوتشي وما دون جنيف“!، والجزئية في شكل تحديد أدوار الضالعين في الملف السوري بآلية تقاسم نفوذهم العسكري، وبالضرورة السياسي والاقتصادي في كل موقع أو محور على أرض الواقع، تتباين فيه المصالح وتتحدد معه خطوط عريضة في ذلك، خاصة على بوابات سورية الجغرافية. فشرق الفرات خلاف غربها، ويبدو أن هذا منجز بين أميركا وروسيا، لكن جنوب الفرات -وحصرًا بوابة البوكمال الشرقية- هي محط تنازع روسي أميركي إيراني، يقابله محور الطريق الدولية بين حلب ودمشق وحلب واللاذقية، وهو محط تنازع يكاد يتفاقم بين تركيا وروسيا، وإيران أيضًا، تحاول لقاءات أنقرة الحالية استيعابه، بينما تبدو صورة الجنوب السوري مبهمة إلى اليوم، ويكتنفها التساؤل والغموض، خاصة في السويداء.
السويداء التي عبّرت عن عقل “امتصاصي” استيعابي لمجمل متغيرات وكوارث المسألة السورية، تحاول بكل طرقها وأدواتها الدينية والسياسية والأهلية امتصاص متغيرات الحالة السورية، والحفاظ على تماسكها “الوجودي”، وعدم الانجرار في أتون الحرب الدائرة في معظم المناطق السورية طوال السنوات التسعة الفائتة؛ من انكفاء شبابها عن الالتحاق بخدمة العسكر فيها، واكتفائها بحماية “أرضها وعرضها”، بحسب مفهومها التاريخي لوجودها كأقلية دينية تكتفي شرّ الحرب، وتحاول البحث عن الاستقرار السياسي مترافقًا مع الكرامة والأمان.
أسئلة السويداء اليوم تكاد تنحصر في نقاط محددة:
- هل هي في مواجهة ساخنة قادمة كشكل عقابي على تخلف غالبية أبنائها عن الانخراط في العمل العسكري؟ وما شكل هذه المواجهة ونتيجتها؟
- هل هي في مضمار المخططات الدولية لما يشاع بين الحين والآخر عن “دولة درزية” بلا مقومات وجود الدولة أصلًا؟
- أما السؤال الذي يبتعد قليلًا من فكرتَي الاستعداء الأولى والمؤامرة الثانية، فهو هل يمكنها أن تلعب دورًا وطنيًا في المسألة السورية مرة أخرى، كما كانت في 1925؟
يبدو أن السؤالين الأولين مثار قلق دائم وترقب واستنفار عام، تحاول كل جهة فيها الإجابة عليه منفردة، فموقف “رجال الكرامة ومن حالفهم” يتمثل في مقولة “الله من جهد البلاء” والتي تعني بالعمق أننا لا نرغب في خوض أي شكل من أشكال الحرب، لكن إن فُرضت من أي طرف كان “فنحن لها، كما كنا بالتاريخ”، وهو الموقف الذي يفسر الحالة الاستيعابية لكافة المشكلات التي تمر على ساحة المحافظة، من انفلات أمني وعمليات خطف وترويع للسكان المدنيين، سواء أكانوا من أبناء المحافظة أو من القادمين إليها، والاستيعاب هنا يتمثل في نقطتين:
- الأولى عدم الانجرار إلى قتال داخلي بين أبناء المحافظة، ومن المعروف جيدًا من هي العصابات التي تقوم بهذه الأعمال المارقة، فكلفة مثل هذه المواجهة على الشارع المحلي ستكون عالية، دمًا أولًا ووجودًا واستقرارًا ثانيًا؛
- أما النقطة الثانية فهي عدم المبادرة بأي ردة فعل مسلحة خاصة، لأن العصابات التي تقوم بهذه الأفعال مرتبطة بأجهزة سلطة النظام بأكثر من طريقة، ولا رغبة لحركة رجال الكرامة في المواجهة معه اليوم، ما لم يفرضها هو، وهذا سؤال قلق دائم!
الموقف الآخر هو الموقف الاجتماعي والديني الرسمي والذي ينوس بين المواربة والغموض، ويتسم في قبول معادلة السلطة الحالية مع تحميلها ضمنًا مسؤولية الانفلات الأمني القائم، لكن من دون التعرض لمركزيتها بذلك بقدر الاكتفاء بالإشارة إلى أذرعها الفاعلة من عصابات الخطف والإجرام، وهنا تتباين المصالح الشخصية فيه، بين من يرغب في المحافظة على مكاسبه السلطوية المحلية اجتماعيًا أو دينيًا، وبين من يحاول الخلاص من قبضة السلطة الأمنية العامة، خاصة في موضوعات وملفات الخدمة الإلزامية والملفات والسياسية، وبين هذا وذاك، يحتار المواطن العادي في عيشه وأمنه وطريقة تدبير حياته، حيث إن سلطة النظام لا تقيم له اعتبارًا أو وزنًا، وتصرّ دائمًا على التقليل من شأنه ووجوده، وقد تجلى هذا واضحًا في الفيلم المسرب قريبًا “لنجدة أنزور” الذي يستخف بكل ميراثهم وحضورهم الشعبي وعنفوانهم التاريخي، ومن جهة أخرى لا يثق الشارع بعمومه بقياداته الاجتماعية والدينية الرسمية الحالية، وهذا محط قلق واستنزاف مستمرين!
في الإجابة عن السؤالين الأوليين، تكاد تلمس غيابًا فاضحًا للدور السياسي المعارض، الدور المؤول ذاتيًا بأنه قام بما عليه واكتفى! وكأن الغالبية، بأحزابها المعارضة والتقليدية وبتشكيلاتها المحدثة من تجمع وطني وهيئة اجتماعية، تكتنفها حالة الرضا عن الذات كما الترقب أيضًا دون الفاعلية، وهنا السؤال الصعب؟
فغالبية المكونات السياسية والاجتماعية المعارضة على ساحة المحافظة وصلت إلى طريق مسدود، من حيث القدرة على الحركة أو التوافق على متغيرات الحالة السورية، وبالضرورة الوصول إلى توافقات مختلفة عن الأساس الذي بنيت عليه، وتتركز لقاءاتها على اجترار بعض الأحداث التي تولدها الأزمة السورية عامة، وارتداداتها على المحافظة وطول نفقها المعتم سياسيًا؛ ما يهدد كياناتها السياسية، بالمزيد من العزلة والتشظي والإغراق في مشكلاتها البينية ذات المرجعية الأيديولوجية! وإن بدت بظاهرها متماسكة ظاهريًا، لكن بروز الجانب الذاتي المتمثل بنزاع “خرافي وهمي” على احتمال زوال النظام واقتراب انهياره، ولّد أحلامًا “دونكشوتية” مناصبية، لا مقومات لها لا بحكم الواقع اليوم، ولا مجريات الحدث المقبلة، خاصة في الإجابة عن السؤالين الأولين أعلاه!
فإن كان الطموح حقًا مشروعًا ومرمًى وغرضًا سياسيًا عامًا، فإن الوقوف في المكان تراجع، وعدم البحث في المشكلات الراهنة دفنٌ للرأس في الرمال؛ من هنا تبرز ضرورة الإجابة عن السؤال الثالث، وعن إمكانية أن تلعب السويداء دورًا وطنيًا عامًا، هذا إذا ما عادت القوى السياسية للتشاور والحوار بعقل جماعي عام، أولى وأهم شروطه الإقرار بأن كل مكونات العمل السورية المعارضة اليوم، والسويداء تحديدًا مأزومة وتكاد تتآكل، ومع هذا، عليها أن تخرج خارج أسوار أيديولوجياتها ومصالحها الضيقة ورؤيتها السياسية قصيرة النظر، وتطرح على نفسها السؤال الأهم سياسيًا:
ماذا يمكنها أن تعمل في معطيات الواقع وممكناته، لا بماذا عليها أن تحلم أو ترغب! وهذا فرق واحد، فالثانية مسألة أدبية شعرية جيدة، لكن لها مجالها وحيثياتها الفردية والشخصية، بينما الأولى هي مقتضى السياسية وأدواتها، وإلا فلنسمها تسمية أخرى مختلفة.
ثمة دعوة من بعض النخب السياسية والفكرية في المعارضة، للعمل بعقل تشاوري عام يتجاوز حدود العمل الكلاسيكي السياسي في زوايا الغرف المعتمة، ومقتضيات العمل السري وذهنية المؤامرة، كما ضرورة تحييد أوهام القيادة المجتمعية، والبحث في تصورات الواقع المقبل وكيفية المشاركة في حل استعصائه، خاصة في نموذج الإجابة عن أسئلة المسألة السورية بكليتها عامة وجزئياتها خاصة، لا تكفيه الإجابات الجاهزة والمضمرة والمحملة بالرأي الشخصي وحسب.
ما تفتقر إليه محافظة السويداء إلى اليوم، على الرغم من تاريخها الوطني العام، وحضورها الاستيعابي وغير العدائي لليوم، وعلى الرغم من امتلاكها الإمكانيات المتعددة علميًا وفكريًا وسياسيًا، هو قدرتها على التعامل مع الواقع السياسي بمعطياته السياسية والاجتماعية والمعارضة، بعقل جمعي يخلص لنتيجة وآليات عمل محددة، لا بعقل استفرادي يخلص لنتيجة تهكمية وعدائية؛ كما يعوزها هذا التوافق بين موقف حماية الأرض والعرض الراسخ “معروفيًّا”، وإمكانية ولوج المسألة الوطنية السورية بقوة، وهذا شرط سياسي، ما لم تدركه قواه المعارضة فعليًا، فعليها تحمل نتيجته التاريخية اليوم وغدًا.
إجابة السويداء اليوم في المسألة السورية قد تبدو ضعيفة، بحكم التوازنات والمصالح الدولية الحاكمة في سورية، ومشتتة بحكم وجودها السياسي المعارض، وما لم تكن على مستوى التحديات الممكنة والمقبلة، فقد تُفرض عليها عنوة إحدى نزعتين، مركزية سلطوية عسكرية أو دينية اثنية مغلقة، أو كلتاهما معًا، وهو المرفوض وطنيًا، فهل ثمة إجابة أخرى؟ أظن أن التوجه الضروري نحو تيار وطني ديمقراطي علماني، هو حاجة ملحة ومنتج التشاور العقلي والهادئ، سؤال خارج التصلب والنزاع وادعاء القدرة المنفردة، فلا يمكن ليد واحدة أن تصفق منفردة، ولا يمكن لعقل واحد أن يمتلك الحقائق كلها، إلا إن تمثل عقلية المستبد أصلًا، وهذا المرفوض كليًا اليوم وغدًا، وكلي خشية أن تسبقه مجريات الواقع.