أدب وفنون

مريام كوك و(سورية الأخرى) 2

الجزء الثاني

نتابع في هذا الجزء من المقالة التعرّف إلى الأعمال الفنية السورية التي ذكرتها مريام كوك، في كتابها (سورية الأخرى صناعة الفن المعارض)، عن علاقة الفنون السورية بالسلطة وبموضوعة الحرية، في سنوات التسعينيات من القرن العشرين. ونخصص هذا الجزء للأعمال المسرحية والسينمائية.

(الغول) ممدوح عدوان:

تفتتح المؤلفة فصلًا بعنوان (عروض معارضة)، بمقتطف من مسرحية (الغول، ممدوح عدوان): “لن تهرب منا حتى بالنوم، ستلاحقك ضحاياك بنقمتها، وبالثأر لن يكفيها اللوم، وضحاياك ولو كممت شكاواها، ستطاردك ولو صارت أشباحًا، سمّمت حياة القوم، وملأت نفوس الناس جراحًا”، أعمق ما لمسته المؤلفة في المسرحية هي تلك المعالجة لصورة الطاغية، وعلاقة المجتمع مع الطاغية، وإدانة عصره بالكامل. يقول جمال باشا في المسرحية: “هل تظنون أنه سيكون من السهل عليكم أن تحاكموا طاغية؟! الطاغية لا يصير طاغية إلا بعد أن يملك عصره ويتمكن منه. لذلك، فإن محاكمة الطاغية محاكمة لعصره الذي استسلم له”. وتورد الكاتبة العبارة الختامية في المسرحية: “الحكمة في كل أوان، أن تهدم سجنًا، لا أن تقطع كف السجان. أنهينا واجبنا الأصغر، وسنبدأ منذ الآن، واجبنا الأكبر: هذا الطغيان لن يتكرر، لن يتكرر، لن يتكرر”.

كما تورد الكاتبة من أحاديث ممدوح عدوان: “لا يكفي أن نصف زنزانة السجن، بل لا بد من أن نقدم عن كثب مشهد انكسار الروح، ولا يكفي أن نصف آلة الطغيان، بل لا بد من أن نرفع الغطاء عن تقنية الطغيان، كي نكتسب القدرة على مقاومتها، ونحول إحباطنا إلى تفاؤل”.

(حفلة سمر من أجل خمسة حزيران)، سعد الله ونوس:

تجربة سعد الله ونوس تحضر في الكاتب، من خلال ثلاث مسرحيات. أولاها (حفلة سمر من أجل خمسة حزيران، 1968). هذه المسرحية تجسيد لإيمان (ونوس) بأن المسرح يرمز إلى ولادة الحوار في المجتمع الذي يمكن أن يوسع فسحة الديمقراطية، وأمل في أن يكون المسرح قادرًا على فعل شيء تجاه آلة القمع السلطوية، من خلال التكلم عليها في حوار. وتتساءل المسرحية عن مدى صدق الصورة السورية للحرب مع إسرائيل في 1967، التي حاولت أن تضفي السلطات العربية فيها لمسة إيجابية على الهزيمة، فجعل (ونوس) المسؤولين يلقون خطابات نصر طنانة، لكن صوتهم كان يقاطع بأصوات المحتجين، وكانت هذه التدخلات تأتي من ممثلين يجلسون خارج خشبة المسرح، وبين الجمهور، ويشكلون جزءًا من المسرحية، لكن المشهد لم يكن واضحًا لبعض الجمهور الذي حاول الانضمام إلى الهتاف، وكان لا بد من إسكاته، لقد كانت المسرحية نجاحًا هائلًا، بحسب ما كتب عنها (باتريك سيل)، كان مبدأ تفاعل الجمهور مع العرض أمرًا جديدًا في ذلك الوقت.

(الفيل يا ملك الزمان) سعد الله ونوس:

في العام 1969، كتب سعد الله ونوس مسرحية (الفيل يا ملك الزمان) وتناولت فكر القيادة الثورية غير اللائقة. وتحكي المسرحية قصة قرية تحاول من دون جدوى إيقاف فيل ملكي عن تدميرها، وفجأة، يظهر (زكريا) الذي يلوم الفلاحين على إذعانهم للمك وفيله الذي يلحق الخراب بالقرية. ويقرر أن يأخذ زمام المبادرة، ويقود جموع الناس إلى الملك ليطالبوه بكف أذى فيله عنهم. يتمكن جموع الأهالي من الحصول على على شرف المثول أمام الملك، ويدخل الجميع من البوابات، ويمرون بجانب الحراس، ومع كل خطوة يخطونها كانت شجاعتهم وجرأتهم تتبددان. وفي النهاية يقف (زكريا) أمام الملك، وبالكاد يستطيع الكلام:

زكريا: الفيل.

الملك: نعم؟

زكريا: الفيل، يا ملك الزمان.

الملك: نعم، ما بال الفيل؟

زكريا: يحتاج إلى زوجة.

بهذه الكلمات ختم مصير الناس في هذه المسرحية، وأصبح المثقف الجريء، صاحب الأهداف الطموحة، لعبة في يد الظلم الأعظم، عندما واجه رموز السلطة.

(منمنمات تاريخية) سعد الله ونوس:

في العام 1993، كتب سعد الله ونوس، نص مسرحية (منمنمات تاريخية)، تجري أحداث المسرحية عند دخول قوات تيمورلنك إلى دمشق، والموقف الذي اتخذه آنذاك المفكر ابن خلدون الذي كان يرفض عاطفة طلابه في شأن فضلية التضحية في سبيل المصلحة العامة. هكذا، تضع مسرحية (منمنات تاريخية) المشاهدين أمام لغز: كيف يجب أن تكون ردة فعل المثقف على الظلم؟ هل عليه رفضه أو مقاومته؟ أم أن يسجل ملاحظاته بطريقة تسمح للآخرين، الذين يمكن أن يكونوا أقدر منه على صنع الثورة، بأن يعلنوا احتجاجهم الآن أو مستقبلًا؟ ينتقد (ونوس) هنا عددًا من الأمور: الطاغية، المثقف، الخائف، والاستجابة الانتحارية وغير المدروسة للظلم. يترك (ونوس) في هذه المسرحية المتلقيّن ليقرروا بأنفسهم، هل اتخذت هذه الشخصية التاريخية القرار الصحيح أم لا، لكنه لم يدع مجالًا للشك حين صرّح في مقابلة له أن المعرفة تقتضي مسؤولية على من يحملها، ويجب على المثقفين أن يتدخلوا في الشؤون العامة، ويقاوموا المعتدين والحكام والطغاة.

(الشقيقة) و(جنراليوس) غسان الجباعي:

تذكر الكاتبة من النصوص المسرحي للكاتب غسان الجباعي ثلاثة نصوص هي: (الشقيقة)، (بودي الحاس)، و(جنراليوس). في مسرحية (الشقيقة)، ينطق فلسطيني أصابه الخرف من كثرة التعذيب، بمونولوج يقدم فيه باختصار، ولو لمرة واحدة، تجربته الليلية عن كيفية ضربه وإخراسه، وضرب رأسه بالأحذية وبأعقاب البنادق. يضحك ساخرًا وهو يقول: “الحراس خائفون. إنهم لا يريدون أن تسمع النوافذ صرخاتي أو أن تراهم. إنهم لا يريدون للشمس أن تراهم”.

مسرحية (جنراليوس) هزلية سياسية عن قيصر وشعبه، عن تلك العلاقة بين الحاكم والمحكوم. مثلًا، حين يتجرأ عرّاف على أن ينبه قيصر بتحوله إلى جنراليوس، يأمر قيصر بأن يلف العراف بجريدة ويترك على الأرض، تحذيرًا لأولئك الذين يهددون قادتهم بكلمات يستقونها من الإعلام. ويمنع قيصر استخدام أقنعة الغاز، لأنها تمنع الشخص من الحديث باستثناء السجناء. هنا يعرّض القائد نفسه للخطر، كي يبقى قادرًا على الحدث. كما يخبر قيصر شعبه بأن ليس عليهم أن ينحنوا له مجددًا، يجب أن يظلوا واقفين فحسب إلى الأبد. ويهتف الشعب:

نزين الشوارع بأمر منه

نزين الهواء

نحمل الصور

ونحمل الرجال

نطفئ القمر

نجوع، نشقى، نتعرى

نموت ألف مرة بمشانق الصمت

وتبقى روما، روما القيصر، قصير روما

بأمر منه.

لقد أمروا أن يهتفوا للقائد، وهم يطيعون لأن حياتهم تتوقف على طاعتهم لقيصر الذي توجد سلطته في كل مكان.

(نجوم النهار) أسامة محمد:

يورد باتريك سيل، في كتابه (الأسد والصراع على الشرق الأوسط)، عن فيلم (نجوم النهار) للمخرج أسامة محمد، ما يلي: “في هذا الفيلم يكون البطل رجلًا طموحًا يتحدر من أصول علوية من شمال سورية، وأول ما يلاحظه المشاهدون شبهه الكبير بالرئيس، حتى إن المنزل الذي تدور فيه أحداث الفيلم يشبه البيت الذي ترعرع فيه حافظ الأسد. في الفيلم يقوم البطل بسرقة أي شيء ثمين تملكه عائلته، مخفيًا أفعاله الشائنة في رداء الحمل الوديع ومشاعر الحب التي يحرص على إظهارها باستمرار أمام عائلته. في المقابل، ثمة جندي إسرائيلي في الجبهة أكثر تعاطفًا وإنسانية من رب العائلة، يسأل الجندي السوري: لماذا لا يأخذ استراحة ويزور عائلته لفترة وجيزة”. لم يحظر الفيلم، لكنه ببساطة لم يعرض، فالجهة المنتجة هي المؤسسة العامة للسينما.

(صعود المطر) عبد اللطيف عبد الحميد:

في فصل بعنوان: (تصوير أحلام)، تتحدث المؤلفة ميريام كوك عن فيلم (صعود المطر، عبد اللطيف عبد الحميد)، حكاية صراع كاتب بين أن يتابع كتابة قصة حب بين حبيبين يراقبهما من على السطح، وأن يكتب ما عايشه برفقة المهرج الذي ظهر له فجأة، وسحبه من قصة الحب التي كان يكتبها، وقاده إلى التظاهرات والاعتصامات، ومن بعدها لم يعد بإمكان الكاتب متابعة الكتابة. ينتهي الفيلم عندما يموت الكاتب في انفجار السخان الصغير الموجود في مكتبه، غير أن موته لا يوقف كتابته، فبعد مدة من جنازته ينفتح قبره ليقذفه خارجًا. وهو يطبع بجنون على طابعته الموحلة، إذ لا يمكن إيقاف الفكر المعارض. كما ترى المؤلفة حكاية الفيلم.

(الكومبارس) نبيل المالح:

توقفت الكاتبة أيضًا عند فيلم (كومبارس، 1995) من إخراج نبيل المالح، يتحدث الفيلم عن قصة بسيطة بين حبيبين: (ندى) الأرملة الشابة التي تعيش مع أخيها وعائلته، و(سالم) الذي يعمل في كاراج لكنه يحلم أن يعمل في المسرح. وكان الحبيبان يلتقيان في الحدائق والأزقة لأنهما فقيران جدًا، الأمر الذي منعهما من الزواج والعيش معًا. وفي يوم من الأيام، تهيئ لهما الأقدار أن يستخدما شقة (عادل)، وهو صديق (سالم). لكن الشقة تقتحم من قبل رجال الأمن الذين يحاولون جمع المعلومات عن الجار، عازف العود الأعمى، وينتهي الفيلم بمشهد المخبر عائدًا، وهو يجر عازف العود الذي لا يملك أدنى فكرة عن الجريمة التي ارتكبها، إذ تعكس هذه الصورة الأخيرة معاقبة المثقف على فنه وأفكاره.

أحلام المدينة، الليل، محمد ملص:

كما تتوقف الكاتبة عند تحليل فيلم (أحلام المدينة، محمد ملص)، فإنها تعتبر أن فيلم (الليل، محمد ملص) يتطرق إلى الممنوع بقناعة تامة، الممنوع هنا هو القنيطرة في عام 1967، ولكنه حماة في عام 1982 أيضًا. تكتب: “نستطيع أن نرى في (الليل) إشارات دمار المدينة القديمة والمجزرة معروضة بصورة واضحة بشكل رمزي ومرئي من خلال عرض النواعير، حيث إن الناعورة رمز حماة، أصبحت علامة المجزرة”.

وأخيرًا، تذكر الكاتبة فيلم (في يوم من أيام العنف الاعتيادي، مات صديقي ميشيل سورا)، وهو للمخرج عمر أميرالاي، يتناول قضية اغتيال الصحفي الفرنسي ميشيل سورا، وهو مؤلف مجموعة الأبحاث التي نشرت بعد وفاته بعنوان (سورية الدولة المتوحشة).

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق