“الفقر الأبيض” هو مصطلح فلسفي جديد، نحتته حديثًا الدكتورة إنصاف حمد، الأستاذة في جامعة دمشق/ قسم الفلسفة، وعضو اللجنة الدستورية الجديدة عن قائمة المجتمع المدني. والمقصود هنا بالفقر الأبيض هو الفقراء السوريون الذي يخفون فقرهم بإظهار “عزة نفسهم”، وتحلّيهم بالصبر، وشعورهم بالرضا على ذلك الفقر. ومن نماذج الفقراء البيض الذين يجسّدون المصطلح المذكور، كما تشرح فيلسوفتنا، موظفون يعملون بصمت بدوامين من أجل تأمين معيشة أولادهم، سجين سياسي لمدة 12 سنة، ولكنه عندما اندلعت “الأزمة” أرسل ولديه للخدمة في الجيش دفاعًا عن سورية، بالإضافة إلى عميد ركن متقاعد، يحمل دكتوراه في العلوم العسكرية، ولكنه وجد نفسه يعمل في قطعة أرض صغيرة، يزرع فيها “الدخان” لتأمين رزقه بشرف.
السبب في أن الدكتورة إنصاف حمد تُلحق صفة “الأبيض” بهؤلاء الفقراء، هو أنهم، بالإضافة إلى أنهم فقراء، صابرون، ولديهم عزة نفس، وراضون بفقرهم، وما زالوا يحافظون على ولائهم وحبّهم للنظام، أي أن الولاء عندهم أمر طبيعي وبديهي، و”غير مفكر فيه”، إذا استخدمنا لغة محمد أركون.
إنهم يشاهدون كل يوم، مثلهم مثل فيلسوفتنا، قصور وفيلات الذين أثروا من “تجارة الحرب ودماء الناس”، عندما يذهبون إلى عملهم، ويقابلون “حيتانًا وهوارين وضباعًا أكلوا وما زالوا يأكلون الأخضر واليابس”، إما بشكل مباشر أو على شاشات التلفاز. وهم أيضًا، مثل فيلسوفتنا، متأكدون من وجود عصابات ومسؤولين “يتلاعبون بالمليارات” دون حسيب أو رقيب. ولكن ذلك لا يهمّ، ولذلك تستمر فيلسوفتنا في دعوة السوريين للصبر وحبّ “الوطن”، على الرغم من كل شيء، وذلك على الرغم من أن صور أولاد “الفقراء البيض” الذين استشهدوا، منتشرة على مد النظر مخترقةً “غابات السنديان والبلوط والتين والزيتون”، وعلى الرغم أيضًا من أن فيلسوفتنا وفقراءها البيض لا يعرفون مسؤولًا كبيرًا واحدًا قدّم أحد أبنائه شهيدًا، لأن أولاد المسؤولين يؤدون خدمة العلم في مكاتب فارهة ومكيفة بعيدًا من المعارك والدماء.
إذا أخذنا مصطلح فيلسوفتنا على محمل الجد، وحاولنا التقرب من هذا المصطلح عن طريق السلب، أي عكس ما يعنيه؛ فسيظهر أمامنا الفقر الأسود، وإذا كانت صفة الأبيض ألصقت بالفقراء لأنهم صابرون ويعملون بصمت؛ فإن الفقير الأسود في هذا الحالة هو من يرفض هذا الفقر، ويثور على من يسرقه ويجوّعه. وهذا يعني أن ما تريد أن تقوله فيلسوفتنا، من وراء هذا المصطلح “النهفة”، أن الفقراء البيض أفضل لسورية من الفقراء السود. لا بل إن الفقير الأسود في هذه الحالة هو عميل، أو مرتبط بالخارج، أو مأجور، لأنه يثور على فقره في الوقت الذي يجب عليه أن يصبر ويتحمل الفقر، لأن الأعداء يتربصون بالوطن. فالحروب مندلعة في سورية منذ عشرة آلاف سنة، على حد تعبير عضو مجلس الشعب نبيل صالح الأسبوع الماضي، ولا ضير من ضم هذه السنوات القليلة إلى تلك القرون الطويلة.
ثقافة تمجيد الفقر والفقراء، لتصبيرهم على الظلم والعوز والجوع وقبول استبداد المستبد، ضاربة في التاريخ، وليست أمرًا جديدًا على الثقافة العربية بمختلف مراحلها، فقد وُجد في تاريخنا حتى من يدعوا العبيد للاعتزاز بعبوديتهم. ولو أن فيلسوفتنا عاشت قبل مئات السنين، لأطلقت على العبيد الراضين عن عبوديتهم مصطلح “العبيد البيض”، ووقفت إلى جانبهم ضد “العبيد السود” الذين كان يقومون، من حين لآخر، بـ “ثورات العبيد” سعيًا منهم لتغيير أوضاعهم الصعبة. بالتأكيد فيلسوفتنا قرأت التاريخ، وتعرف أنه حتى العبيد يثورون أيضًا، ويبدو أن هذا ما يقلقها.
يعرّف الفيلسوف الفرنسي المعاصر جيل دولوز الفلسفة، بأنها “إبداع المفاهيم”، أي إيجاد كلمة أو جملة تستطيع أن تعبّر عن وضع معين، أو تلخصه، أو تساعد في فهمه بطريقة معينة، ما يغنينا عن مجلدات بأكملها. هكذا أبدع هيغل مفهوم “عقل التاريخ”، وماركس “الجدلية التاريخية”، وجيل دولوز “سلطة المعرفة”… غير أن دولوز لا يعتقد أن على الفيلسوف أن يبدع المفهوم في الفراغ، بل يجب أن يشعر بأن هناك ضرورة أو حاجة تقبع خلف إبداعه لهذا المفهوم، وهكذا تصبح الفلسفة سرد حكايات عن طريق المفاهيم.
فيلسوفتنا مؤمنة أيضًا بأن الفلسفة هي إبداع للمفاهيم، ولكن ليس من أجل فهم الواقع، كما يريد هيغل، أو تغييره، كما يريد ماركس، أو لجعله أكثر عدالة، كما يرغب الفيلسوف الأميركي المعاصر جون رولز، ولكن من أجل المحافظة على الواقع، وتزييف وعي الناس، كما يريد بشار الأسد. فبشار الأسد نفسه يعرف أنه ليس بالسلاح وحده يستطيع أن يستمر.