في عام 2013، وفي ذروة التهديدات الأميركية الجدية بتدخل واسع في سورية، على إثر استخدام النظام للسلاح الكيمياوي؛ وقف كثيرٌ من علمانيي الثورة السورية وليبرالييها ضد التدخل الأميركي، بوصفه تدخلًا خارجيًا مرفوضًا في شأن داخلي سوري، وكان هناك طيف واسع ممن يرون أن التدخل الخارجي هو انتقاص من الوطنية السورية، لكن ما حصل أن أحدًا لم يهتم لما كانوا يقولون، وتبيّن أن التدخل الخارجي كان لمصلحة النظام لا ضدّه، فقد استولت الولايات المتحدة على الجزء الأكبر من السلاح الكيميائي السوري، وأبقت على الأسد، وذلك السلاح لم يشتره الأسد من ماله الخاص، وإنما الشعب السوري هو من دفع ثمنه من لقمة عيشه وحبة دوائه.
اليوم أشبه بالأمس، حيث تصرّ تركيا على ترتيبات خاصّة على حدود سورية الشمالية، تضمن من خلالها أمنها القومي بشكل دائم وثابت ومستقر، وذلك من خلال إبعاد السلاح الذي يحمله فصيل (قسد) إلى مسافة محددة بعيدًا من الحدود السورية – التركية المشتركة، والحديث هنا يدور عن فصيل مسلح، وليس عن الإخوة الأكراد، الذين عانوا مظلومية مضاعفة من قبل النظام السوري، وفي هذا السياق، لا يمكن لطرف محلي أو دولي أن يُناقش الجانب التركي بأصل وقانونية هذا الحق الممنوح لهم من قبل النظام السوري، وربّما يمكن نقاش حجم هذا الحق، حيث إن تركيا كانت وما زالت تتمتع بحق التدخل بالأرض السورية بعمق خمسة كيلومترات، وفي بعض الأماكن أكثر من ذلك، وذلك بفضل (اتفاق أضنة) الذي وقّعه عدنان بدر حسن رئيس شعبة الأمن السياسي السورية في عهد حافظ الأسد، بوساطة الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك، وعلى إثر ذلك الاتفاق، تخلّت الحكومة السورية عن عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المصنف جماعة إرهابية في تركيا، وقيادته تقيم في كهوف جبال قنديل التركية، وبعد ذلك شهدت الحدود السورية – التركية حالة استقرار، تُوّجت بإزالة حقول الألغام بين البلدين في ذروة العلاقة بين الرئيسين أردوغان والأسد، واستمرت الحال كذلك حتى مطلع الثورة السورية عام 2011.
ما إن انطلقت الثورة السورية، حتى برزت التباينات السياسية في الساحة الكردية، كما في الساحة العربية، ووقع الجميع تحت تأثير التجاذبات وحالة الاستقطاب المحلية والدولية، وبناءً على ذلك، ظهر فصيل مسلح تابع لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (فرع حزب العمال الكردستاني التركي)، وراح أتباع هذا الفصيل يرفعون صور أوجلان وشعاراته في أماكن سيطرتهم، وليس في الأماكن التي فيها المواطن السوري الكردي فحسب، بل في مدن لا وجود فيها للمواطن السوري الكردي، مثل الرقة ودير الزور وغيرها، وجرت محاولات كثيرة من طرف هيئات سورية معارضة، من أجل ضمّ هذا الفصيل إلى صفوف الثورة السورية، ومنها مؤتمر القاهرة، واستطاعت هيئة التنسيق الوطنية، لمدة وجيزة، استقطاب هذا الفصيل وضمّه، لكنه سرعان ما انقلب على هيئة التنسيق، وذهب يكمل مشروعه في “الإدارة الذاتية” لفرضه لاحقًا على عموم السوريين كأمر واقع، وحين انطلاق مفاوضات جنيف 2، كانت هناك مساع جادة لإشراك هذا الفصيل من طرف القوى الوطنية السورية، وكان هناك شبه موافقة من طرف الاتحاد الديمقراطي الكردي، قبل أن يتدخل الأميركي ويقنعه بعدم المشاركة، فعاد من جديد إلى مشروعه القديم الجديد، ومع ظهور التنظيم الإرهابي (داعش) كان لا بد من أن يدافع هذا الفصيل عن مواقعه، وهنا كان للآلة العسكرية الأميركية الكلمة الفصل، إذ كانت تستخدم سياسة الأرض المحروقة، أي أن القوات الكردية كانت تدخل المدن بعد أن يحرقها الأميركي بمن فيها، وطوال سنوات الحرب، لم يكن هناك مواجهة تُذكر بين قوات النظام وقوات (قسد)، بل على العكس كان سلاح (قسد) يُستخدم ضد المدنيين، لإجبارهم على دفع الضرائب، واختطاف الأطفال في حملات التجنيد الإجباري، مما دفع كثيرًا من الأهالي، عربًا وأكرادًا، إلى الفرار من مناطق سيطرته، كما مُنع الأهالي من المشاركة بالثورة، ولا ننسى المجزرة التي ارتكبتها ميليشيات هذا الحزب في مدينة عامودا، وراح ضحيتها خمسة مواطنين أكراد، في أثناء قمعها تظاهرات مناوئة للنظام.
اليوم تتعالى الأصوات مع التدخل التركي وضده، بصفته تدخلًا خارجيًا، ونجد في صفوف الثورة كثيرين ممن هم ضد هذا التدخل، وهناك من يقف ضد هذا التدخل ويشترط توفر البديل، ويقول إن ما ينطبق على قوات (قسد) ينطبق على (جبهة النصرة)، لكون الطرفين يتخذان المدنيين دروعًا بشرية، ويحاولان فرض أجندتهم الخاصة في مناطق سيطرتهم. وبناء على ذلك، فإن أمام (جبهة النصرة) و(قوات قسد) على حد سواء، خيارات قليلة وهي:
- حل التنظيمات والانخراط في صفوف الثورة.
- اختيار المواجهة مع القوات التركية.
- اختيار التحالف مع قوات النظام.
لقد عانى المدنيون الكثير في مناطق سيطرة التنظيمين، وآن الأوان لهؤلاء أن يعودوا لممارسة حياتهم الطبيعية، بعيدًا من الميليشيات المسلحة ولغة العنف، وعلى الجميع أن يقتنع بأن الشعب السوري قد ثار من أجل حريته، وليس من أجل استبدال مستبد بآخر، وليس من أجل الهروب من قبضة الأمن السوري إلى قبضة (قسد) الأمنية أو قبضة (النصرة)، وأي حرب تُخاض الآن سبُبها هذا الفصيل المتمرد التمييزي.