كرد سورية هم ضحية سياسات النظام التمييزية العنصرية التي استهدفتهم على مدى عقود وجودًا وهوية، كما هم ضحايا مشاريع الآخرين الذين أرادوا استخدام شبابهم في مغامراتهم ومشاريعهم التي لم تتقاطع قط مع مصلحة الكرد السوريين، ولا مع مصلحة السوريين بصورة عامة.
فمع بداية الثورة السورية ربيع عام 2011 كانت أنظار السوريين جميعًا ترنو نحو الكرد، ويترقبون مشاركتهم الفاعلة في الثورة، الأمر الذي كان سيربك النظام، وسيغير الموازين بصورة نوعية لصالح الثورة. ولكن النظام من ناحيته تحسّب لمختلف الاحتمالات، وعاد إلى دفاتره القديمة، وجدد تحالفه الأمني الاستخباراتي مع حزب العمال الكردستاني عبر واجهته السورية: حزب الاتحاد الديمقراطي الذي تمكّن من تصفية الناشطين والفاعلين الكرد في الثورة، وفرض سلطته بدعم من النظام، وتنسيق مستمر معه.
مع ظهور داعش، وجد الجانب الأميركي في الحزب المذكور قوة عسكرية منظمة منضبطة، فتعامل معها على المستوى الاستخباراتي العسكري، واستخدمها في حربه على داعش، وذلك في إطار تفاهم عام مع الجانب الروسي على عملية تقاسم مناطق النفوذ في سورية، وقد كلف هذا التعاون الغريب بين الولايات المتحدة الأميريكية، القوة الأكبر عسكريًا في العالم، والحزب المعني، كردَ سورية عشرات الآلاف من الضحايا الذين قُتلوا في المعارك التي كانت ضد داعش في مختلف المناطق، وذلك بناء على الخطط والالتزامات الأميركية.
في الوقت ذاته، استخدمت الولايات المتحدة ورقة هذا الحزب أداة للضغط على حليفتها تركيا من أجل إلزامها بشروط جديدة تتناسب مع طبيعة التحولات الجديدة في المنطقة، وماهية المعادلات التوازنية التي ستكون أساسًا لإعادة هيكلة بنية التحالفات والعلاقات بين مختلف القوى الإقليمية، والدولية المتصارعة على المنطقة ومستقبلها.
بعد عملية شد وجذب استغرقت أعوامًا، يبدو أن الرئيس الأميركي ترامب قد توافق مع الرئيس التركي أردوغان على تجاوز الخلافات من خلال صفقة، منحت بموجبها الولاياتُ المتحدة الضوء الأخضر للتدخل التركي في منطقة شرقي الفرات، مقابل تعهدات تركية لم يكشف النقاب عنها حتى الآن. وعلى الرغم من الحملة التي نشهدها هنا حاليًا على قرار ترمب من جانب أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب من الجمهويين والديمقراطيين، يُعتقد أن قرار ترامب لم يكن مجرد نزوة، أو مجرد خطأ في الحسابات، بل كان حصيلة سلسلة من اللقاءات والمباحثات والاتصالات الأمنية والعسكرية والسياسية، وعلى أعلى المستويات، بين الجانبين الأميركي والتركي. هذا ما نتلمسه على أرض الواقع، وما يُستشف من التغريدات المتناقضة للرئيس الأميركي، وهي تغريدات يعمل صاحبها على تشتيت الانتباه في مختلف الاتجاهات، ليبقى التوجه الرئيس المعتمد ساري المفعول، وإلى إشعار آخر.
ما يُستنتج من التصريحات الروسية والإيرانية هو أن الطرفين لديهما ارتياح واضح لما حصل، بل هناك مبادرة روسية لتطبيع العلاقات بين حزب الاتحاد الديمقراطي والنظام، يكون بوابة عودة النظام بصورة كاملة، الأمر الذي ربما يكون موضع ارتياح الجميع بمن فيهم تركيا والولايات المتحدة.ومن الواضح أن حلًا من هذا القبيل سيكون مرتبطًا بموضوع إدلب، ليعلن النظام عن بسط سلطته ولو شكليًا على كامل التراب السوري، على أن يتم لاحقًا الاستعجال في موضوع اللجنة الدستورية، والعمل من ثم على ترتيب انتخابات صورية تسوّق على أنها الحل المنتظر. وفي الوقت ذاته، تبذل روسيا جهودًا موازية تستهدف عقد مباحثات بين تركيا والنظام حول الموضوع الكردي.
لقد زُج كرد سورية في معركة أكبر من طاقتهم، وأُلصقت بهم تهم تتناقض بالمطلق مع توجهاتهم الفعلية، وسعيهم السلمي الدائم من أجل وضع حلّ عادل لقضيتهم، ضمن إطار الوحدة الوطنية السورية، وبموجب مشروع وطني سوري، يطمئن الجميع على قاعدة الاعتراف بالحقوق، وتحديد الواجبات، وإفساح المجال أمام الجميع للمشاركة.
فالانفصال الذي بات تهمة ممجوجة، لم يكن أبدًا هدفًا كرديًا سوريًا، ولا توجد أصلًا أية إمكانية أو مقدمات لتحقيقه. وكان النظام سابقًا يستخدم هذه التهمة لإضفاء قسط من الشرعية الزائفة على سياساته الاضطهادية التي اتبعها ضد الكرد على مدى عقود، وهي سياسة الاضطهاد المزدوج التي تقوم على ركنين، وهما: عدم الإقرار بأية حقوق مشروعة للكرد، و تطبيق جملة من المشارع التمييزية العنصرية التي استهدفت الكرد السوريين وجودًا وهوية.
في وقتنا الراهن، تستخدم تركيا التهمة ذاتها، لتسويغ تدخلها العسكري في المنطقة الحدودية الممتدة ما بين تل أبيض غربًا حتى ديريك/ المالكية شرقًا، وهي المنطقة التي تضم الوجود الكردي السوري الرئيسي. ومن الملاحظ أن التلويح بتهمة الانفصال باتت أشبه بشعار محاربة الإرهاب، يُستخدم وقت اللزوم للتغطية على الأهداف الحقيقية.
فتركيا تعرف أكثر من غيرها أن حزب الاتحاد الديمقراطي هو في الأصل مجرد واجهة لحزب العمال الكردستاني الذي استغل عدالة القضية الكردية في سورية، وهي قضية تعود بجذورها إلى بدايات تشكيل الدولة السورية، وتحولت إلى قضية ملحة مع سيطرة حزب البعث على مقاليد الأمور في سورية عام 1963.
كما أن الحزب المعني استطاع بفعل الصفقة التي عقدها مع النظام منذ بداية الثورة، كما أسلفنا، ونتيجة ضعف وترهل الأحزاب الكردية السورية، وعجزها عن تجاوز خلافاتها، من الهيمنة على المناطق الكردية التي اتخذ منها خزانًا بشريًا لتجنيد المقاتلين بالقوة، واستنزاف موارادها المادية الشحيحة أصلًا بابشع الوسائل.
فكرد سورية كانوا، وما زالوا، ضحية السياسات الرسمية على الصعيد الداخلي، وأصبحوا لاحقًا مجرد مادة استغلالية للمشاريع الإقليمية والدولية، وهم اليوم يتعرضون لحملة عسكرية تركية تفوق إمكانياتهم وقدراتهم.
الأمر اللافت في الحملة التركية، هو الحرص التركي على إشراك بعض الفصائل المسلحة السورية المحسوبة على المعارضة في العمليات القتالية، الأمر الذي سيزيد من الشروخ بين العرب والكرد، تمامًا مثلما كان الحال مع تدخل قوات الـ (ب. ي. د.) في المناطق العربية، وهذا كله سيترك جروحًا عميقة في النسيج المجتمعي الوطني السوري. ومن الملاحظ في هذا السياق هو أن أصواتًا متطرفة عربية وكردية تصدر هنا وهناك، تسمم الأجواء، وتثير المشاريع الهوجاء، وتقطع الطريق على المعالجات الهادئة الحكيمة.
يتحمل حزب العمال الكردستاني مسؤولية كبرى في ما يحصل للكرد السوريين اليوم، وهو الذي أصر منذ البداية على التحكم منفردًا بالورقة الكردية السورية، وأبعد كل الأحزاب الكردية ومنظمات المجتمع المدني والناشطين الكرد من الذين تفاعلوا مع الثورة السورية منذ يومها الأول، عن مجال الفعل، بل مارس في حقهم مختلف أساليب القمع والترهيب والتغييب.
كما أن القوى التي استغلت هذا الحزب، واعتمدته أداة لتنفيذ مخططها، تتحمل هي الأخرى مسؤولية كبيرة، فهي التي مكّنت هذا الحزب من السيطرة؛ إذ زودته بالمال والسلاح، وهذا ينطبق على النظام والقوى الدولية الأخرى.
ها هي تركيا اليوم تنضم إلى القوى التي ألحقت الأذى بالكرد السوريين. فقواتها تقصف المدن والبلدات الكردية، وتروع المدنيين، وتدفع بالناس إلى ترك منازلهم، والتوجه نساء وأطفالًا وشيوخًا نحو المصير المجهول.
إن الحرب الجارية اليوم بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، بغض النظر عن الأسماء الحركية المستخدمة، هي حرب لا تخص الكرد السوريين، ولا السوريين عمومًا، وهي حرب ستدمر المنطقة، وستتسبب في وقوع ضحايا كثيرة، مما يستوجب تحركًا دوليًا سريعًا لمعالجة الموقف، وإيقاف العمليات القتالية، وتهيئة الأجواء لمباحثات ومفاوضات في مقدورها وضع الحلول لمختلف القضايا، هذا إذا كانت النوايا سليمة، والإردات خيرة.