في ظل المستحقات الجمالية والفنية لبناء سينما، تنتج افتراضات، تندمج في التقدم الإنساني العام، وفي ظل قمع حريات التفكير والتعبير، نشأت مقولة “السينما الوطنية”، ليس بمعنى سينما محلية ذات طابع يعبّر عن القيم الشعبية والإنسانية، وتموضع المفهوم، من خلال الحفر في وجدان المكان والزمان والبناء الاجتماعي للأفكار الحرة الطليقة، بل زج بها كمفهوم سياسي ضيّق، يبجّل القيادة ومنجزاتها، ويعاقب الخونة المفترضين، ويحيك قصصًا مهندَسة، لتثبيت وشرعنة الاستغلال والاستبداد.
ظهرت سينما البروباغندا المباشرة، من خلال الابتعاد عن المجتمع، أو تشويهه، أو تجميله بمكياجات زائفة، وحصر رسالة السينما خارج الوظائف الجمالية، وجعلها أداة مثل أي نشرة أخبار بائسة.
إن الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي استلهمت من الفاشية وشبيهاتها هذه الطريقة وهذه المفاهيم، فهيمنت الأنظمة على الإنتاج السينمائي، من خلال مؤسساتها المدعومة من موازنة الدولة، وألحقتها بخططها الإعلامية البائسة أيضًا، واستأجرت الكتّاب والمثقفين وصانعي السينما، تحت مسميات الشعارات السياسية التضليلية، غير الجمالية وغير الحرفية في صناعة سينما متخلفة سطحية ركيكة.
كانت السينما تدور على المدارس لتعطي الدرس الوطني في حب القائد ورفع شأنه، ومحاربته لأعداء الوطن في الداخل والخارج.
لقد كانت السينما المصرية، نشأةً وبداية، ثاني سينما في العالم بعد فرنسا، حيث تم عرض فيلم الأخوين لوميير الأول، في الإسكندرية بعد باريس مباشرة، وتم إنتاج فيلم سينمائي قبل إيطاليا، وفي حال قراءة تاريخ السينما العربية، سنرى أن السلطات الاستبدادية قد انتبهت إلى هذا الفن الذي من الممكن، إذا فلت من بين أصابعها، أن يغيّر وجه عالم الاستبداد، ويطلق الطاقات الوعيوية والجمالية لدى الشعب، فألحقت السينما ومؤسساتها بأجهزة الأمن والسيادة، وتم تصنيفها بالسينما الوطنية، حيث من الممكن اتهام عملك الفني، الذي يقرأ الحياة بشكل وبطريقة مختلفة، بأنه غير وطني، وربما يوصف بالمعادي.
ليس ثمة شيء اسمه وطنية السينما، هناك سينما الوطن، تنتج جمالًا محترفًا ينقل الناس إلى الدهشة والأسئلة، وتخلق فيضًا من المتعة وتدافع عن قيم إنسانية وتحقق الفن احترافيًا، لكن هناك سينما تشوه الوطن، ليس بالمعلومات المباشرة وحسب، بل بنشر القبح وسوء الحرفية، سينما تشبه تمثالًا من ثلج، تذهب من الذاكرة سريعًا، وتترك أثرًا مريضًا وفعلًا لا معنى له، ولا يشكل في الوجدان شيئًا يذكر.
إن تصنيف السينما هو تصنيف فني، وليس تصنيفًا سياسيًا ممجوجًا، حيث إن السينما، منذ نشأتها، انتمت إلى موجات فكرية وجمالية.. وتاريخ السينما في العالم، يوضح ذلك، فكانت المدارس الفنية الجمالية تسير جنبًا إلى جنب مع الأدب ومدارسه، ومع معظم الفنون الأخرى وتطوراتها، دون زبانية، ورجال أمن تصنف انتماء الفنان، بناء على منتوجه الجمالي الذي لا يتوافق مع خطة الدولة أو العصابة المهيمنة على السلطة.
لقد فعلت ذلك أنظمتنا العربية من دون استثناء، فمنها مَن استغنى عن السينما وإنشائها، ومنها من دعمها بشروطه وهيمنته، تمامًا كما فعلت المكارثية في السينما الأميركية في خمسينيات القرن الماضي.
عبر تراكم السنوات، ظهر السينمائي غير الحرفي على الصعيد الفني والجمالي، وتسوّد سلطة الفن (العسكرية)، وتماهت السلطة المستبدة مع الدين الرايدكالي، في الثالوث المحرم الشهير (السياسة، الدين، الجنس)، ثم توسع هذا الثالوث، لتهيمن أفكار المؤسسات الرجعية، في التراث واللغة، والتاريخ، حتى أصبح الفن السينمائي فنًا قزمًا هزيلًا، خارج حركة وتطور التاريخ الفني والتقدم التكنولوجي العالمي، وأغرقت السينما بالرمزية المفرطة التي تحولت إلى شيفرات لا يفهمها إلا القليل، أو أغرقت بسينمات الفكر التجاري الساذج والسطحي، وسينما “المقاولات” كما أطلق عليها. فأبعدت المواهب، من كتاب ومخرجين، إلا النزر القليل الذي استطاع الإفلات نسبيًا، بما يسمح به فن “الحيلة”، كما أطلق عليه يومًا ما برتولد بريخت.
انسحب كل ذلك على الدراما التلفزيونية، فيما بعد، من خراب فكري وفني، فتحوّلت إلى منصات تسلية للتخمة الرمضانية وبعد الفطور مباشرة. وبالبحث الفني الشامل والواسع؛ نرى أن ما أصاب السينما أصاب المسرح والفنون الأخرى، لكن السينما بقيت المتضرر الأكبر، كونها تحتاج إلى رأس مال كبير، وقدرة صناعية في صيرورتها وإمكانات تحقيقها.
وقد شاخت السينما العربية في طفولتها، وتسمرت في مكانها، فنستطيع القول إنها أُجهضت منذ البدايات كأي صناعة وتقدم اجتماعي محلي.
السينما الوطنية هي السينما الحرة الجميلة الاحترافية، وغير ذلك هي شعارات زائفة وأوصاف لا تمت إلى جوهر الجمال والفن بشيء. فالسينما والفن ليس لهما وطن بالمعنى السياسي، إنهما قيمتان جماليتان، إذا تم الإتقان والانتماء للشرط الفني والجمالي، ذلك يكفي كي يُصبحا “وطنيين وتقدميين” بامتياز.
السينما الهشة والساذجة، والركيكة، هي سينما رجعية، أيًا كانت موضوعاتها البراقة وطنية.