تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

جثث السوريين ترسم نفوذ الدول

لم يسبق أن مرّت الثورة السورية، من خلال أحداثها، بمفصل أو تحوّل أو حدث مهم إلا انقسم السوريون حوله، عموديًا وأفقيًا وفي كل اتجاه، حيث نشاهد هذه الانقسامات بجلاء ووضوح تامّين على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى شاشات التلفزة، ونسمعه من خلال بعض المداخلات على القنوات الإذاعية عبر الأثير.

في كثير من الأحيان، تكون وجهة نظر المواطن السوري رهينة بموقف البلد الذي يقيم فيه، إن كان مقيمًا في بلد عربي أو في الإقليم، وربما يكون موقف هذا المواطن يُعبّر عن حقيقة رأيه وموقفه، وربما كان اتساقًا مع موقف الدولة التي يقطن فيها، ولا يمكن الحكم على حقيقة هذه المواقف، بأي شكل.

أما السوريون المقيمون في بلاد أوروبا والأميركيتين، حيث يكون فضاء الحرية أكثر رحابةً، فتستطيع سماع آراء أكثر جرأةً ووضوحًا، ويمكن الاعتبار أن هذه الآراء تمثل حقًا وجهة نظر أصحابها، على اختلافها وتنوعها، وفي كلتا الحالتين، سواء كان السوري مقيمًا في الإقليم أم خارجه، نرى أن هذه الانقسامات تبدأ من السوري الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وتنتهي عند أشخاص حاصلين على أعلى مستويات العلم والثقافة.

انقسم السوريون أخيرًا، حول التدخل العسكري التركي في الشمال السوري، وامتد هذا الانقسام إلى مواقف الدول العربية وغير العربية، فمن أيّد التدخل دافع عن الدول التي تتخذ هذا الموقف، وهاجم الدول المعارضة للتدخل واصفًا إياها بأبشع الصفات، والعكس صحيح في الطرف المقابل.

يصيح معارض للتدخل بأن هذا التدخل يمسّ بالسيادة الوطنية ووحدة أرض وتراب سورية، وأن ضحاياه مواطنون سوريون سواء كانوا أكرادًا أم عربًا، ولا شك في أن هذا الكلام صحيح من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية فإن تركيا تُبرر تدخلها باتفاق أضنة، الذي ما زال ساري المفعول من طرف الدولتين السورية والتركية، وهذا ما أعلنته الحكومة التركية في رسالتها إلى مجلس الأمن، وهنا وضعت تركيا مجلس الأمن والمجتمع الدولي في موقف حرج، بل في زاوية قاتلة، حيث لا يستطيع مجلس الأمن ولا المجتمع الدولي أن يُنكر شرعية النظام في هذه الاتفاقية، وأن يقرّ بها في حالة التدخلين الروسي والإيراني، فإما إنكار شرعية النظام في الحالتين، وإما الاعتراف بها في كلتا الحالتين، ولا سيما أن النظام السوري ما زال متمسكًا بالاتفاق التركي – السوري، ولَم يُعلن انسحابه منه حتى اللحظة.

هذا تمامًا ما يتكئ عليه مؤيدو التدخل التركي، ففي كثير من الحالات تأتي هذه المواقف ليس حبًا في تركيا، وليس كرهًا بالإخوة الأكراد ولا حتى بـ (قسد)، وإنما كنوع من الاحتجاج على الرافضين التدخل ولسان حالهم يسأل: أين كُنتُم حين احتلت روسيا وإيران الأرض السورية وشردتنا؟!

من جانب آخر، كان الجميع يسمع ويراقب التحضيرات التركية على مدار أشهر، من دون تحرك يذكر من أجل سحب فتيل المعركة، عدا مبادرة روسية يتيمة فحواها أن تعود (قسد) إلى حضن النظام، أي العودة إلى ما قبل عام 2011، بينما الأميركي الذي كان يدير دفة الصراع هناك، بدأ الآن يتحدث عن إمكانية لعب دور الوسيط بين الطرف التركي وتنظيم (قسد)، ولا يكاد العرض الأميركي يختلف عن العرض الروسي، وفي كليهما أنّ على (قسد) أن تتخلى عن السلاح.

إنها أشد حالات السوريين عجزًا، حيث نجد مؤيدين للتدخل التركي في صفوف المؤيدين والمعارضين للنظام، فجماعة النظام يريدون معاقبة (قسد) لأنها خرجت عن بيت الطاعة الأسدي، وجماعة المعارضة يريدون معاقبتها أيضًا، لأنها لم تدخل الثورة بل كانت ضدها في كثير من الحالات والمناطق، حيث كان لـ (قسد) على الدوام مشروعها الخاص المرفوض من طرفي النظام والمعارضة، وما يزيد حالة العجز هو افتقار السوريين إلى أي مبادرة حل، والجميع يقول: “لنشوف شو بصير”.

لا شك في أن التدخل التركي خلط الأوراق مجددًا، حيث إن الدول المعارضة للتدخل لم تعارضه محبةً بالسوريين كردًا وعربًا، وإنما كرهًا بتركيا، وكذلك الطرف المؤيد للتدخل لم يكن تأييدهم حبًا لا بتركيا ولا بالسوريين، وإنما لمناكفة الدول المعارضة للتدخل، فمعارضو التدخل ومؤيدوه لا ينظرون إلى المواطن السوري بالمقدار الذي ينظرون فيه إلى مصالحهم وطموحهم، وهكذا تبقى جثث السوريين ترسم حدود نفوذ كل هذه الدول.

Author

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق