تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

التحولات السبعة عشر للحرب التركية الثالثة في العمق السوري

انطلقت عملية “نبع السلام” التي ضمت الجيش التركي والجيش الوطني السوري، يوم الأربعاء 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والهدف الأساس منها إنجاز منطقة آمنة، بعمق 30 كم وطول يتجاوز 450 كم، بمساحة تُقدر بـ 16 ألف كيلومتر مربع، وبمجرد إعلان هذه العملية، وبدء العمليات العسكرية فيها، فقد حققت تحولات فعلية على الأرض وفي المنطقة، بدليل ردات الفعل العربية والأوروبية والعالمية حولها، التي كانت على شكل استنكار وشجب وتهديد بعقوبات أميركية على تركيا، في الوقت الذي أعطت فيه الولايات المتحدة ذاتها الضوء الأخضر للعملية، متخلية عن أدواتها (قسد) القوات الكردية الانفصالية شرقي الفرات، وما يسمى “وحدات حماية الشعب” الكردية، وقامت بسحب قواتها من الحدود السورية – التركية لتمهيد الطريق لدخول القوات التركية والجيش الوطني السوري، واللافت أيضًا أن الولايات المتحدة وروسيا رفضتا واستخدمتا حق النقض الفيتو بمجلس الأمن في توافق روسي – أميركي نادر بالتاريخ، لوقف أي إدانة لتركيا، فيما رحبت المعارضة السورية بالإجمال بتلك العملية للقضاء على حلفاء الأسد، من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المعادي لتركيا منذ عام 1984) الذي سيطر على ثلث الأراضي السورية منذ أكثر من عام تقريبًا، بعد نهاية (داعش)، وحكمه التعسفي لمنطقة يقطنها 90 بالمئة من العرب السوريين، وتعد هذه العملية الحرب التركية الثالثة في عمق الأراضي السورية، منذ بداية الثورة السورية ضد نظام الأسد عام 2011، فقد كانت الحرب الأولى عملية (درع الفرات) عام 2016 التي أدت إلى تحرير منطقة الباب شرقي حلب، والحرب الثانية عملية (غصن الزيتون) عام 2018 التي أدت إلى تحرير منطقة عفرين شمالي حلب، واليوم حرب عملية “نبع السلام” 2019 التي تستهدف تحرير منطقة شرق الفرات العربية.

التحولات السبعة عشر للحرب التركية الثالثة؟

1- انتصار تركيا في المفاضلة بينها وبين الأكراد في السياسة الأميركية

فتحت القوات الأميركية الطريق لتركيا شرقي الفرات، بالرغم من وجود فريقين متنازعين في البيت الأبيض حول جدوى وجود القوات الأميركية من عدمها في سورية، وفيما اطمأن الأكراد لوجود عشرين قاعدة أميركية ضمن الأراضي التي يسيطرون عليها شمال شرقي سورية، كان قرار ترامب حاسمًا بترجيح الكفة التركية، وتفضيل المصالح الأميركية مع تركيا، وهي مصالح تعود لأكثر من ستين عامًا، على مصالحها الطارئة مع حزب (ب ك ك) الكردي.

2- نهاية حلم الانفصال، والفيدرالية والحكم الذاتي لما يسمّى (روجآفا)

منذ عام 2013، طعن القوميون الأكراد بالثورة السورية، وأسسوا حكمًا ذاتيًا، وقوة عسكرية “قوات سوريا الديمقراطية” تهدف إلى ترسيخ ما يسمى (روجآفا) بمعنى “غرب كردستان”، ثم قاموا بتخفيف استعمال (روجآفا) لاستمالة العرب شرقي الفرات، وبعد انتصار التحالف الدولي على (داعش)، سيطرت قوات (قسد) على مزيد من الأراضي العربية شرقي الفرات، ومارست المزيد من التجاوزات العنصرية منها تدمير قرى عربية بأكملها، وفرض كفالة كردية على العرب، واحتجاز العرب في مخيمات لدفعهم للتهجير، وفرض اللغة الكردية على المناهج واستبدال تعليم الديانة الإسلامية بالديانة الزردشتية، وفرض التجنيد الإجباري، ومعتقلات التعذيب التي استهدفت العرب بالدرجة الأولى. وبالتالي فعملية “نبع السلام” أنهت كامل هذه المعاناة بمجرد إطلاقها.

3- تغيير الخارطة السياسية السورية والسيطرة على ثلث الأراضي السورية لمصلحة الثورة ضد الأسد

في الوقت الذي كثر فيه الحديث الغربي عن “انتصار نظام الأسد”، وسيطرته على ثلثي الأراضي السورية، بعد أن فقد أكثر من ثمانين بالمئة منها عام 2014، إذ أنقذه التدخل الروسي آنذاك، تُعدّ عملية “نبع السلام” إعادة لرسم خارطة الثورة السورية في مواجهة الأسد.

4- تركيا الرافعة الوحيدة المتبقية  للثورة السورية

تخلى كثيرون عن تبني الثورة السورية في إنهاء نظام الأسد، وبقيت الرافعة التركية وبعض حلفاء الثورة السورية من العرب، وبالتالي تتحمل تركيا الجزء الأكبر في أهمية استمرار الثورة السورية حتى إسقاط الأسد، وتعدّ عملية “نبع السلام” مرحلة مهمة ومفصلية لتحول الصراع السوري، وطوق النجاة المتبقي بعد أن فقد كثير من السوريين الأمل والثقة في انتصار ثورتهم على نظام القتل والاستبداد القابع في دمشق. وبعد خسارة جيوب الثورة في دمشق والغوطة الشرقية والجنوب السوري وريف حمص وحماة وجزء من إدلب. وبالتالي ستكون عملية تحرير شرق الفرات عبارة عن توسيع للمناطق المحررة من الأسد وحلفائه.

5- هزيمة جديدة لنظام الأسد وحليفه حزب الاتحاد الديمقراطي

تحالف الأسد مع حزب العمال الكردستاني مرتين: الأولى من عام 1984 إلى عام 1998، وانتهت بتخلي النظام عن حماية عبد الله أوجلان، وتسليمه بشكل غير مباشر إلى تركيا وحل ميليشياته في سورية، وانسحاب مقاتليه لجبال قنديل على الحدود التركية العراقية، وفي المرة الثانية عندما تحالف معهم لإنجاز ثورة مضادة شرقي وشمالي شرقي سورية وشمالها، للانقضاض على الثورة السورية ضد نظامه، ولتهديد أمن تركيا القومي، الداعمة للثورة السورية، ودخل حزب العمال الكردستاني التركي أصلًا تحت مسمّى حزب الاتحاد الديمقراطي و”وحدات حماية الشعب”.

6- إعادة اللاجئين السوريين

لجأ أكثر من مليوني سوري على الأقل، من الشمال السوري، بسبب ممارسات كل من (داعش) “الحليف السابق للأسد”، وحزب (ب ك ك) “الحليف للأسد منذ عام 2013، وبالتالي فعملية “نبع السلام” تمهد الطريق لعودة اللاجئين السوريين من أبناء الشمال لديارهم.

7- تحقيق المنطقة الآمنة

تكرس المنطقة الآمنة شمالي سورية العودة الآمنة لمعظم اللاجئين السوريين من أبناء الشمال السوري، وبذلك تعيد الثقة بوطنهم وانتمائهم إلى الوطن، عبر تشكيل حكومة وطنية فاعلة تمنع نظام الأسد وحلفائه من القيام بتجاوزات بحق المدنيين السوريين العائدين لديارهم أو الذين ما زالوا فيها.

8- إعادة الإعمار في الشمال السوري وبناء مدن جديدة

طالبت تركيا بمبلغ 37 مليار دولار لبناء العديد من المدن وإعادة إعمار المدن المدمرة من قبل قوات التحالف الدولي والنظام السوري، مما يؤكد أهمية الدور التركي في إعادة الإعمار لسورية، عكس النظام العاجز عن القيام بتلك العملية وكذلك حلفائه، وبالتالي فإن تلك العملية نموذج مهم على المدى البعيد والقريب حتى إسقاط نظام الأسد، وهو سحب البساط من تحت أقدام النظام الذي طالما عمل على تعفين ومحاصرة المناطق التي تمردت عليه. إما عبر (داعش) تارة أو (ب ك ك) تارة أخرى، عدا ضفادعه التي سلّمت المناطق الأخرى.

9- العملية الأكبر منذ قبرص 1974

تعرضت تركيا عام 1975، بعد تدخلها العسكري في قبرص التركية لعملية حصار أوروبي وضغوطات اقتصادية، بغاية إيقاف عملية قبرص آنذاك، وهناك من المحللين العرب من وصف العملية بقبرص الجديدة شمالي سورية، ومن وصفها بمحاولة تغيير ديموغرافي، ولكن هذه العملية هي الأكبر فعليًا منذ عام 1974، للجيش التركي خارج أراضيه، وهو ما يعني أن حقبة جديدة ستغير الوضع السوري برمته، بمشاركة حاسمة للجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا.

10- التوازن الداخلي والخارجي للدولة التركية

في الآونة الأخيرة، ظهرت في الداخل التركي أصوات تنادي بإنهاء أزمة اللاجئين السوريين في تركيا، وترافق ذلك مع تحولات في الصوت التركي المعارض لتواجد السوريين، فتارة من باب القومية، وتارة أخرى من باب الكيدية السياسية في الصراع بين الأحزاب، وأصبح اللاجئ السوري العامل الأكبر في تحول الرأي العام التركي، لا سيما من قبل المعارضة التركية التي ترغب في فتح حوار مع نظام الأسد، وحاولت عقد مؤتمر مع مسؤولين بحزب البعث السوري التابع للنظام في إسطنبول، وتمكنت المعارضة السورية ومؤيدوها من الحزب الحاكم في تركيا من وأد تلك المحاولة، وأي شكل من أشكال التطبيع مع نظام الأسد، وإطلاق هذه العملية أدى إلى خفت تلك الأصوات العنصرية التي تستهدف الشعب السوري المستضعف في تركيا، ومن الناحية الخارجية أكدت ورقة اللاجئين السوريين فاعليتها في مواجهة التعنت الأوروبي الذي يُطبع مع الأسد من تحت الطاولة، ويحاول فتح حوار غير مباشر معه لتمهيد المشاركة في إعادة إعمار سورية.

11- العمق الإيجابي للثورة السورية وتأكيد مفهوم الجار الدافئ والمريح

تُعدّ تركيا الجار الدافئ والمريح لسورية، منذ غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق عام 2003، وقد وصلت العلاقات التركية – السورية في تلك الحقبة إلى درجة متقدمة من الازدهار والتطور، وبعد قيام الثورة السورية، انحازت الحكومة التركية إلى مطالب الشعب السوري في إنهاء النظام، وأصبحت تركيا منصة المعارضة السورية، على كافة ألوانها وأطيافها السياسية.

12- المنطقة الآمنة ليست إسكندرون الثانية

سيطرت تركيا على لواء إسكندرون عام 1938، بموجب اتفاقيات مهد لها الاحتلال الفرنسي لسورية، وكانت ظروف الصفقة آنذاك قائمة على تتريك اللواء السوري، وتغيير معالمه الديموغرافية، وللمفارقة هنا أن نظام الأسد اعترف بتركيّة لواء إسكندرون باتفاقية أضنة عام 1998، لكن عملية “نبع السلام” اليوم مختلفة، لأنها تهدف إلى إعادة المواطنين السوريين -سواء أكانوا عربًا أو أكرادًا- ممن اضطهدتهم العقلية الميليشياوية لحزب (ب ك ك)، وبالتالي الحفاظ على ديموغرافية شرق الفرات دون المساس بها.

13- اتفاقية أضنة الأمنية وشرعية التدخل التركي

عام 1998، وقّع نظام الأسد الأب مع الحكومة التركية، اتفاقية أضنة الأمنيّة، وهي تمنح الشرعية للقوات العسكرية التركية بالتدخل بالأراضي السورية، في حال تهديد أمنها القومي، وبالتالي تتمتع تركيا بحقها الطبيعي بملاحقة الإرهابيين الذين يستهدفون عمقها وأمنها، وخاصة أن الاتحاد الديمقراطي هو فرع حزب العمال الكردستاني، وهم إرهابيون أتراك استعملوا الأراضي السورية كمنطلق لأعمالهم الإرهابية.

14- ملامح هزيمة إيران في تحقيق ممر وهلال شيعي

تحاول إيران التي تتعرض للقصف الإسرائيلي أو “المجهول” شرقي سورية، وغيرها من المناطق، الحفاظ على تواجدها خاصة في المناطق الحدودية السورية العراقية، ولا سيّما البوكمال، وعارضت الصحف الإيرانية، بل دان نظام الملالي في طهران العملية التركية السورية المشتركة، ضد قوات (ب ك ك) الانفصالية، لشعورها بوجود عامل طرد رئيس ثالث لها إضافة إلى روسيا و”إسرائيل”.

15- التوازن مع الروس مقابل التخلص من الأسد:

عطلت روسيا صدور بيان مشترك عن مجلس الأمن الذي طالب فيه بوقف العملية التركية في سورية، والمفارقة أن من قدم هذا البيان هو الولايات المتحدة التي رفضت في وقت سابق إدانة تركيا بمجلس الأمن، مما يعكس حجم التخبط داخل البيت الأبيض، مقابل استمرار روسيا تأكيدها أنها اللاعب الأهم في الملف السوري، أي أن التوجهات الروسية تتجه نحو عدم مواجهة تركيا، والتوصل معها بالمستقبل القريب -كما يبدو- إلى تغيير رأس نظام الأسد، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، كما أجمعت دول العالم.

16- قوة تركيا في ضعفها

يُعدّ الاقتصاد التركي أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، ويبلغ 766 مليار دولار، وعلى الرغم من معاناته خلال العامين الماضيين، في إثر قضية القس الأميركي أندرو برانسون، وتلويح الكونغرس الأميركي بفرض عقوبات قاسية على تركيا، على إثر عملية “نبع السلام”، فإن الجيش التركي يُعد أكبر جيوش الناتو، ورابع أكبر جيش في العالم، وتتمتع تركيا بعلاقات متجذرة واستراتيجية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكانت تركيا قد تبنت العلاقات الصفرية في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، إلا أنها دخلت بقوة كلاعب رئيس في الصراع السوري، وبالتالي فسورية هي العقدة والحل لكافة دول المنطقة، وهنا يأتي دور تركيا التي خسرت بوابة العرب الكبرى لتركيا للعالم العربي، أي سورية، في الوقت الذي تعد فيه تركيا بوابة سورية والعرب الكبرى لأوروبا، من ناحية نقل الطاقة والتجارة البرية والتطور الاقتصادي، فضلًا عن أنها مركز مهم لسوق اقتصادية إسلامية مهمة تمتد حتى حدود الصين.

17- تجاوز صفقة القرن

عارض نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي عملية “نبع السلام”، وعبّر عن مخاوف الكيان الإسرائيلي، من نهاية وشيكة لـ “صفقة القرن”، فالشعب المصري كسر حاجز الخوف من نظام السيسي الموالي لـ “إسرائيل”، بثورة محمد علي الأخيرة، والعراق خرج من كبوته منتفضًا على الوجود الإيراني في أراضيه، والسعودية عالقة في مأزق صراعها باليمن ومناكفاتها مع إيران، وبالتالي لا يمكن تحقيق “صفقة القرن” بمجرد ضم القدس والجولان وغور الأردن، وهي الإجراءات التي لا تحظى بقبول دولي وأممي، ومع ذلك فالمنطقة عبارة عن رمال متحركة لا ثبات فيها، ومستنقع كبير مركزه سورية. وما زال المستقبل مجهولًا وغير واضح المعالم.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق