مقالات الرأي

انتصار بطعم العلقم

يكشف إلحاح النظام الأسدي المستمر منذ أكثر من سنتين على القول إنه انتصر، عن حقيقتين يعرفهما كل السوريين: الحقيقة الأولى أن انتصاره كان بطعم العلقم، وأن وضعه اليوم أسوأ بكثير من وضعه قبل الثورة، أما الحقيقة الثانية فهي أن الثورة لم تكن أكبر الخاسرين، بل إن النظام يكاد يتفوق عليها بالخسائر التي مُني بها خلال السنوات الثماني من عمر الثورة.

لم يتوقع السوريون أن يكون العالم بهذا السوء، وأن يدير ظهره لهم بهذا الشكل، بالمقابل لم يتوقعوا أيضًا أنهم بهذه القوة، وأنهم يستطيعون أن يُحرجوا النظام إلى هذا الحد حتى إن النظام نفسه لم يتوقع أن يكون مجرمًا وفاقدًا للسيادة بهذا الشكل. بالنتيجة اكتشف كلٌّ من الطرفين ذاته من خلال الآخر.

يعرف النظام الأسدي أنه أصبح أبعد ما يكون عن فكرة الأبدية في السلطة التي قضى حافظ الأسد ثلاثين عامًا من عمره وهو يخطط لها. أما السوريون فهم اليوم، بالرغم من كل شيء، أقرب لفكرة الحرية التي بقي النظام الأسدي على مدى نصف قرن يقنعهم بأنهم ليسوا أهلًا لها، وفي أحسن الأحوال ليسوا بحاجة إليها. أقرب لفكرة الحرية بمعنى أنهم أضحوا أكثر دراية بأن معاناتهم، من دون دولة الحريات والقانون، ستستمر بأشكال وطرق عديدة.

لم يخطط النظام الأسدي لكي ينتصر، بل خطط لكي يبقى في السلطة فقط. كل الأطراف الفاعلة في الوضع السوري التقطت هذه الفكرة، وأخذت تتعامل مع النظام الأسدي على قاعدة: أنت تبقى في السلطة ونحن نأخذ ما نريد. تفكير الأطراف الفاعلة في سورية قبل الثورة ليس هو نفسه بعد الثورة، باستثناء إيران. ولا سيما أن هناك أطرافًا عديدة اتخذت من سورية إما ميدانًا تصدر إليه مشاكلها الداخلية، أو وسيلة لكي تنمح لنفسها مكانة دولية تسعى لتدعيمها (روسيا، إيران وتركيا). هناك أطراف اتخذت من سورية خطّ دفاع أول، لكي تصدّ ارتدادات الثورة السورية، الثورة العربية الوحيدة في المشرق العربي (الخليج العربي). القارة العجوز مارست عجزها، واكتفت بإسداء النصائح وتقديم المساعدات الإنسانية، على الرغم من وصول أكثر من مليون لاجئ إلى أراضيها، أما أوباما فاستمر في اللعب بـالـ “آيباد” في الاجتماعات التي تتناول الوضع السوري.

ساعدت الثورة السورية النظام الإيراني لكي يعبر عن نفسه بشكل أفضل، ويمدد مساعيه في التوسع من بغداد إلى دمشق، الأمر الذي يساعد في إشغال الإيرانيين بهوس أعداء الخارج بشكل أفضل، ويرفع من درجة مزاودة النظام الإيراني عليهم. بوتين أيضًا وجد في اللعبة السورية متنفسًا حتى يرفع درجة شعبيته ويحصل على مكانة متخيلة لروسيا، وإن كانت مكانة مرسومة الحدود من قبل الأميركيين، فالدعاية أهم من الحقائق، والناس تفضل أن تعرف ما ترغب في معرفته فقط.

لم يكن أمام دول الخليج سوى خيارَين لا ثالث لهما: الخيار الأول أسلمة الثورة السورية، لإمكانية التعامل مع الإسلاميين، وقدرتها على التأثير فيهم واختراقهم، وبذلك تكتسب إمكانية توجيه الثورة وإيجاد طرف يمكن أن يفرغ الثورة من معانيها، كما حصل في حالة السيسي في مصر ومع الفصائل الإسلامية المسلحة في سورية، على الرغم من اختلاف الوضع بين سورية ومصر. طبعًا من مزايا هذا الخيار أنه يستطيع أن يُغرق الثورة في بحور من الدماء، حتى يعتقد آخر خليجي أن التفكير في الثورة هو تفكير بأسوأ فكرة اخترعها البشر في تاريخهم السياسي الطويل. والخيار الثاني كان عدم الإلحاح على استبعاد النظام الأسدي، على الرغم من أنه شريك إيران الاستراتيجي، طالما أنه أصبح أكثر ضعفًا، الأمر الذي يسهل التعامل معه، ولا سيما أن القواسم المشتركة، باستثناء الانتماء الطائفي، كثيرة، وكثيرة جدًا.

يُعدّ حزب العمال الكردستاني، وفرعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي أيضًا من الذين وجدوا الثورة السورية فرصة لتجديد وضعهم وتسجيل عدد من النقاط. وبعد تمكنهم من الحصول على دعم أميركي منذ عام 2015، تحولوا إلى طرف فاعل في شمال سورية، غير أن حساباتهم بقيت أقرب إلى المغامرات، وخصوصًا أن الموقف الأميركي غير واضح، وهم اليوم يواجهون موقفًا صعبًا بعد أن تخلى عنهم ترامب مجددًا. أما الأتراك الذين وجدوا أنفسهم ينزلقون شيئًا فشيئًا في الوضع السوري، فإنهم لن يقبلوا بأقل من أن يكون الشمال السوري، بشرقه وغربه، تحت جناحهم عبر “الجيش الوطني”، ولكن كالعادة التي أصبحت أقرب إلى العرف: “خذ ما شئت، ولكن أعط الآخرين ما يريدون أيضًا”، تريد تركيا أن توطّن اللاجئين السوريين في المناطق التي تريد أن تسيطر عليها، ولكن ليست هذه هي الحقيقة، فالوجود الكردي هو ما يُقلقها، وإذا منعت تركيا حزب العمال الكردستاني من التحكم في شمال سورية، وحدّت من نفوذه، فهذا يكفي حاليًا، ولا سيما أن أردوغان بحاجة، مثله مثل الأطراف الفاعلة في اللعبة السورية، إلى رفع أسهمه في الداخل التي أخذت تتراجع، وبخاصة بعد انتخابات إسطنبول الأخيرة التي أخذ ينظر إليها حزب العدالة والتنمية على أنها “فأل شؤم”.

ما يقلق النظام السوري أن مصالح الطامحين الجدد مختلفة كثيرًا، بل قد تصل إلى حد التناقض، وهذا يعني أن الوضع في سورية يظلّ غامضًا، ومرشحًا لمزيد من الصراعات، ولا سيّما في إدلب والجزيرة السورية، دون أن ننسى ضربات “إسرائيل” المستمرة لمقار الفصائل الإيرانية، التي وصلت حتى دير الزور. الكل يريد أن يلعب في سورية، ولكن لعبًا عن لعب يختلف، فاللعب في سورية هو بين أعداء وليس أصدقاء، وهذا ما يدفع بالنظام السوري إلى الهروب إلى الأمام، والترديد على نفسه بأنه انتصر، عسى الأوهام تخفف من توتره، ولكن دون أن يعلم أن الأوهام قد تقتل الكائن الحي، كما يقول علم النفس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق