مقالات الرأي

سورية الجمهورية الاتحادية… تساؤلات غير “مؤدلجة”!

في الآونة الأخيرة، وفي سياق العديد من المبادرات المتعددة السورية لإيجاد مخرج للاستعصاء السياسي الذي تعيشه المسألة السورية، بعدما آلت إليه من تراجع في ملفاتها الدولية وطريقة حلها من هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات في جنيف 1 عام 2012، إلى حكومة انتقالية وفق قرار مجلس الأمن 2254/2015، إلى إنشاء حكم غير طائفي يضم الجميع كسلة من سلال ديمستورا الأربعة عام 2017 إبان جنيف 4، لتصل اليوم فقط إلى لجنة دستورية دون أي إشارة إلى مرحلة انتقالية! ومرد هذا طبعًا الثقل الروسي العسكري والسياسي فيها، فهل تقف المسألة هنا؟

سؤال حمله السوريون في اتجاهات عدة، منها محاولة الرفض الكلية للجنتها الدستورية هذه، ومنها القبول الجزئي فيها وغيره وتعدد الرؤى غير القادرة على اقتراح بديل فعلي يمس معطيات أرض الواقع وإمكاناته المرحلية.

في هذا السياق، برزت ورقة فكرية سياسية تحت عنوان: “مبادرة من أجل سورية جمهورية اتحادية”، لمجموعة من المفكرين والنخب السياسية، المعروفين بالتزامهم طوال السنوات الماضية بالمسألة الوطنية السورية، وبحق السوريين المشروع في إقامة نظام حكمهم الديمقراطي المدني، ودولتهم الحديثة، دولة الحق والقانون دستوريًا وشرعيًا، متساوية البعد تجاه كل مكونات المجتمع السوري، بحسب ما جاء فيها، مضافًا إليها أن تتمتع بلامركزية إدارية عريضة، وبناء دولة اتحادية ترتبط أقاليمها ومناطقها بالمركز السيادي بالخارجية والتمثيل الدبلوماسي الخارجي، كما الأمن والجيش والموازنة العامة والدستور، كما في كل الفيدراليات الحديثة المعمول بها عالميًا.

حملت هذه الورقة جدلًا واسعًا بين أوساط سياسية عدة، راوحت بين الرفض الكلي عنوانًا، وبين القبول والرفض الجزئي، بينما ساد صمت إزاءها من عدد من الأوساط السياسية والفكرية في سورية! حيث تبدو الورقة في عنوانها العريض ذات حساسية عامة، عند معظم التيارات السورية المتمسكة بالهوية الوطنية السورية ومركزيتها السياسية في ذلك، حيث الرغبة في الجمهورية العامة كدولة ذات كامل السيادة، وهذا حق لا جدال حوله، فما شكلها الممكن اليوم؟ وما الذي يدعم إمكانها الفعلي؟

ولكيلا يُقال، كما قالت العرب يومًا “الصيفَ ضيعت اللبن”، لا بد من طرح المسألة السورية بغض النظر عن هذه الورقة وغيرها في سياق مجرياتها اليوم دون محاميل أيديولوجية كانت وما زالت عبئًا ثقيلًا على العمل السياسي الوطني، ومحط تنافس “قوموي” أو “اشتراكوي” أو “إسلاموي” وليبرالي علماني أيضًا؛ والبارز فيها أن غالبية القوى السياسية المعارضة السورية موافقة على قرارات جنيف، وهذا بالمبدأ، كما أشرنا أعلاه، حقٌّ عام لا غنى عنه. لكن هل يمكن أن نتساءل مع هذه القوى، وهم المتمسكون بالقرارات الدولية، عن قدرتهم على رؤية واقع المسألة الدولية السورية اليوم، كما صورناها سريعًا أعلاه؟ وإضافة إلى تدهور ملفاتها الأممية ونزاعها بين سوتشي الروسية وجنيف بقراراته المتتالية الدولية، فإنها باتت نقطة استعصاء دولية، وتحاول روسيا ومن خلفها سلطة النظام بكل السبل استعادة سيطرتها المركزية، عسكريًا وأمنيًا، على كامل الأرض السورية، باستثناء شرق الفرات، ما يعني بالضرورة وضع إدلب وريف حلب الشمالي محط تهديد أمني عسكري، سيجلب بالضرورة المزيد من العنف والقتل والتهجير كما المزيد من التدخل الخارجي الإقليمي في الملف السوري.

مع اتضاح هذه الصورة بعتمتها السياسية، هناك فرق معارضة سورية تتصدى لرفض اللجنة الدستورية، وتقر بضرورة تنفيذ الاتفاقات الدولية دون وضع الفوارق الممكنة بينهما، أو دراستها في سياق موضوعي لارغبوي وأيديولوجي، وكانت “لحسة الأيديولوجية”، كما سماها المرحوم ياسين الحافظ، غالبة على أي فعل سياسي لليوم، دون تدقيق الواقع والانطلاق منه!

في الورقة المشار إليها بداية، ثمة انطلاقة قد تبدو مهمة في هذا السياق، مفادها البداية من إدلب وحمايتها دوليًا وفق هذا الإعلان لسورية جمهورية اتحادية، وإن كانت هذه النقطة تشكل ضرورة سياسية، لكنها تبدو حالمة وراغبة أيضًا من حيث إرادة المجتمع الدولي في ذلك سلميًا، بقدر تعامله مع سورية وإدلب وغيرها كملفات تقاسم نفوذ لليوم، ومع هذا تبقى ذات أهمية في إمكانية العمل الراهن عليها وفق تقاطعات الدول ومساراتها في الملف السوري، وهذا سؤال جيوسياسي على معدّي الورقة الإجابة الفعلية عليه لا الافتراضية وحسب.

لكنّ ما يلفت النظر، هو بيان جبهة “جود”، الجبهة الوطنية الديمقراطية، قيد التأسيس وأساسها، كما ورد في بيان لجنتها التحضيرية ذاتها الأدبيات المعروفة للوطنية السورية؛ والغريب في بيان “جود” هذا -وهي المشاركة فعليًا، عبر هيئة التنسيق الوطنية، في الهيئة العليا للمفاوضات واللجنة الدستورية المزمعة في الحل السوري- أنها توافق جزئيًا مع مقدمات الورقة أعلاه، لكنها ترفض تقسيم سورية، وهذا ما لم يرد في الورقة! وتطالب بإدارة لامركزية إدارية في سورية، وحقيقة لا أعلم الفرق بين اللامركزية الإدارية، وبين معطيات الفكر النظري في ذلك في ما يسمى بالاتحادية الموجودة في الورقة؟ فكلا المفهومين يتفقان على أن تجرى الانتخابات المحلية المناطقية إداريًا، وهو ما تقره “جود” ذاتها، وأن تبقى مركزية السيادة للدولة متمثلة بوزارتي الخارجية والمالية مع الاحتفاظ بجيش وطني عام وقوى أمنية لا علاقة لها بالسياسية والحياة المدنية. إلا أن “جود” كانت ترى في اللامركزية الإدارية القانون 107 لعام 2012 الخاص بقانون الإدارة المحلية السورية، والذي يبقي على مركزية السلطة السياسية والأمنية ذات الهيمنة الكلية في كامل سورية (والذي تم تبيان عيوبه من ديمقراطية شكلية زائفة واستحواذ سياسي كامل فيه، فصلناها في دراسة مطولة سابقة: عنوانها المسألة السورية اللامركزية الإدارية الذاتية، التحديات والممكنات على موقع مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا/ مينا)؛ وهنا لا يجوز الخلط بين القوانين الصادرة عن النظام السوري بعد عام 2011، التي يطالب الجميع بتغيرها، سواء المتعلقة بدستور 2012، أو القانون 107 ذاته، أو محكمة الإرهاب وغيرها، وبين المفاهيم المحدثة في الدستور العصري وعقده الاجتماعي واللامركزية الإدارية الممكنة خارج هيمنة أيديولوجيا البعث ومركزيته السلطوية، فكيف تجيب “جود” عن هذه الأسئلة التفصيلية، قبل أن توافق أو ترفض على اتحادية الجمهورية أو لا مركزيتها الإدارية؟

إلى اليوم، ما ميز مسار المعارضة السورية منذ عام 2011، أنها تعالج مسائل الواقع وفق رؤاها الأيديولوجية ذاتها، دون التعمق في رؤى مختلفة عنها، ما شكل كمًا هائلًا من التشتت والتعارض والتفتيت، ليصبح العنوان والشعار ذا حساسية أيديولوجية قبل أي معاينة واقعية، خلاف ما تفعله مراكز الدراسات المتخصصة، فإن كانت سورية اليوم موضع تقاسم نفوذ سياسي عام، تحت عناوين زائفة كسورية الجمهورية الموحدة، فهل نمتلك القدرة على التساؤل المشروع حول فكرة اللامركزية الإدارية الموسعة أو الاتحادية؟ ولماذا تمثل درجة عالية من الحساسية لدى معظم السوريين بخلفياتهم السياسية والحزبية؟

سؤال تبدو إجابته ليست فكرية فقط، بل سياسية راهنة تتعلق بمحاميل الواقع الاجتماعي والموروث الثقافي العام والخلفية السيكولوجية العامة لها، أو ما يسمى بـ “المخيال الجمعي العام”، المتمثلة بغالبها ببعد وطني عام تنتابه نزعات القومية والوحدة العربية الهشة والمفتتة أيضًا، والتي أتت للأسف بكل هذا الوبال والصلف السلطوي العسكري المستبد، والنتيجة دمار وانهدام وطني إلى ما لانهاية.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق