تحقيقات وتقارير سياسيةسلايدر

المستويات الثلاثة في الردود الدولية على عملية “نبع السلام”

توقفت عملية “نبع السلام”، بعد أن حققت أهدافها “التركية” بتحقيق “منطقة آمنة”، وكذلك كسب كل من النظام السوري وروسيا المزيد من المناطق، رغم معارضة أبنائها الشديدة لعودته، فمنذ أن بدأت العملية العسكرية التركية مع الجيش الوطني السوري، دخلت المنطقة في قلب سجال دولي سياسي بين مختلف دول العالم، وكانت المنظمات الدولية الرئيسية معنية بهذه العملية، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي حتى جامعة الدول العربية، وعادت سورية لمربع الاهتمام الأول في العالم. كما أن الخلافات بين الدول حول تلك العملية تمنع اتخاذ إجراءات عقابية بحق تركية، ولكن زيارة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس سحبت فتيل الحرب، وأنجحت عملية “نبع السلام”، بإعلان وقف مؤقت لإطلاق النار لمدة 120 ساعة، مقابل تخلي حزب (ب ك ك) عن سلاحه الثقيل، والانسحاب إلى ما وراء خط الـ 30 إلى 35 كم، وهو نجاح باهر وتاريخي للسياسة التركية، ولعملية “نبع السلام”، حيث حققت تركيا أهدافها بالفعل، على الرغم من ردود الفعل العالمية الغاضبة. وبالمقابل كسبت قوات النظام السوري المزيد من المناطق في ريف الحسكة، وريف الرقة وريف حلب الشمالي، نتيجة تسليم حلفاء النظام من الأكراد تلك المناطق.

وقد اتخذت تلك الاختلافات ثلاث مستويات رئيسية، في مواجهة ما أسماه بعض الأوروبيين “الغزو التركي”، وهناك من أصبح يندب حظ “الأكراد” المتعثر في إقامة دولتهم الموعودة منذ معاهدة فيرساي بعد الحرب العالمية الأولى، وهناك صحف أوروبية وصفت الرئيس الأميركي ترامب “بالخائن”. بالمقابل رحّب كثير من السوريين والعديد من دول العالم بتلك العملية، التي تنهي حلم “روجآفا” بعد نهاية “داعش”، وهي النهاية السريعة الثانية لثاني ثورة مضادة للثورة السورية المناهضة لنظام الأسد، وبعملية “نبع السلام”، وقبلها عمليات التحالف الدولي، تسقط دويلتان مارقتان في التاريخ السوري: “داعش” الإرهابية و”روجآفا” الانفصالية، وكلتاهما حليفتان للأسد. فقد سلمت (داعش) قوات النظام أكثر من ستين قرية بريف حلب، خلال عملية “درع الفرات” عام 2016، واليوم يسلم (ب ك ك) عدة مناطق للنظام شرق الفرات وريف حلب الشمالي.

فما هي المستويات الثلاثة المناهضة للتوغل التركي الأخير بالأراضي السورية بعد “درع الفرات” 2016، و”غصن الزيتون” 2018؟

مستوى الدول المعنية مباشرة بالحرب السورية:

وهي الدول التي تورطت مباشرة في الصراع السوري من الناحية العسكرية، أي الولايات المتحدة وروسيا وإيران و”إسرائيل”، وبدرجة أقل بريطانيا التي لديها قاعدة عسكرية جنوب شرقي سورية.

بالنسبة إلى الولايات المتحدة كان موقفها مربكًا للغاية، فهي من أعطت “الضوء الأخضر” للبدء بعملية “نبع السلام”، لإنهاء الانفصاليين الأكراد، وأعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البداية سحب القوات الأميركية من الحدود التركية السورية، وبالتالي إنهاء العقبة الأخيرة أمام التدخل العسكري التركي.

ولكن خلافات البيت الأبيض والبنتاغون مع الرئيس ترامب، أدخلت السياسة الأميركية بحالة من التخبط، فالأكراد بالنسبة إليهم حلفاء لسنوات في الحرب ضد (داعش)، فظهرت تغريدات ترامب متناقضة فتارة يهاجم الأكراد بأنهم لم يشاركوا الأميركيين بتحرير النورماندي بالحرب العالمية الثانية، وتارة أخرى يهاجم الأتراك ويهددهم بتدمير اقتصادهم، فضلًا عن التلويح بإقرار البيت الأبيض فرض عقوبات اقتصادية على مسؤولين أتراك، ورفع ضريبة الحديد التركي للولايات المتحدة بنسبة خمسين بالمئة.

وتسببت ما سميت “خيانة” ترامب للأكراد، بانقسامات بين البيت الأبيض والحزب الجمهوري الأميركي الحاكم ذاته والكونغرس الأميركي الذي رفض الانسحاب الأميركي من الأراضي السورية، مما أدى إلى خلط الأوراق، لكن المرجح أن خط الرئيس الأميركي هو الذي سيسود من ناحية المنطقة الآمنة، فتركيا هي عضو بحلف الناتو في النهاية. وبالفعل هذا ما تم يوم الخميس 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، باتفاق بنس مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بوقف إطلاق النار، وإقرار المنطقة الآمنة، ونهاية عملية لأحلام الانفصاليين.

أما روسيا فقد شابهت الولايات المتحدة في موقفها، فليس لروسيا علاقات متضاربة مع الانفصاليين الأكراد السوريين، ولا حتى الإرهابيين الأكراد الذين يهددون أمن تركية، والمتواجدين بالأراضي السورية وجبال قنديل، ولم تظهر إشكاليات حقيقية بين الروس والأتراك، في عملية “غصن الزيتون” التي حُررت فيها عفرين من قبل الجيش التركي والجيش الحر، فيما عدا إشكال واحد بداية “غصن الزيتون” عام 2018، لكن العملية نجحت بالنهاية باجتثاث عناصر (ب ك ك) من عفرين السورية. وكما فعل الأميركيون اليوم مع “نبع السلام” إذ ضحوا بعلاقاتهم مع الأكراد لمصلحة الأتراك، كذلك فعل الروس في عفرين. في سبيل الحفاظ على الصداقة مع الأتراك. ولكن ظهر الإرباك الروسي مع قوات النظام في منبج.

فروسيا مستفيد كبير في النهاية من تراجع الوجود الأميركي في سورية، وملء الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الأميركي، وهدفها من البداية أن تكون العملية سريعة ومحدودة، لإرساء ما تسميه “الاستقرار” في سورية، وإنجاز “الدستور” السوري، بحسب أستانا التي تجمع كلًا من روسيا وتركيا وإيران. مع العلم روسيا هي الحليف الكبير لنظام الأسد منذ تدخلها المباشر عام 2015، إضافة إلى إيران. وكما يبدو كانت بانتظار العملية التركية مع الجيش الوطني السوري، وانسحاب القوات الأميركية، لتتمكن من بسط سيطرة حليفها النظام على مدن دير الزور والرقة، وذكرت الليبراسيون الفرنسية أن روسيا هي التي دفعت أنقرة إلى تخفيف حدة التوتر على الأرض، بالرغم من تبجح نائب الرئيس الأميركي مايك بنس بتوصله إلى وقف إطلاق النار. وأضافت الصحيفة في افتتاحيتها، يوم 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، أن الخاسر الأكبر هم الأكراد والغرب أيضًا، وأن نظامًا سوريًا جديدًا وُلد منذ عشرة أيام.

أما إيران فموقفها معقد للغاية، فهي حليف نظام الأسد الرئيسي، وتحتل دمشق، وحليف لروسيا، كما أنها صديقة تركيا، ومع ذلك لا تستطيع أن تنفر الأكراد السوريين منها. وقد أعربت خارجية نظام الملالي في طهران عن شكوكها بالعملية التركية، ولكنها تتفهم الأسباب المتعلقة بالأمن التركي، ومن هنا تأتي الحاجة إلى إزالة الأكراد من حدودها الجنوبية، لكنها دعت بالوقت نفسه لوقف العملية والانسحاب من الأراضي السورية، هذا الإرباك الإيراني في البيان نتيجة خشيتها من أكراد إيران، ومخاوفها من إثارة اضطرابات في المناطق التي يقطن فيها الأكراد في إيران، فكانت ردة فعلها ملونة. كما أن صداقة تركية مهمة جدًا هذه الفترة، في ظل تصاعد توترها مع المملكة العربية السعودية، والتوتر الشديد والمرتفع للغاية مع الولايات المتحدة الأميركية. أما العراق فهو يشاطر إيران ذلك الموقف، على الرغم من تنديده به، حيث يتمتع الأكراد شمالي شرقي العراق بالحكم الذاتي، وشاركت قوات البيشمركة بالحرب ضد (داعش)، وبالتالي يحاول العراق إظهار حزمه ضد العملية التركية لترطيب أجواء الأكراد العراقيين، وعدم إدخال العراق في دائرة فوضى إضافية، في الوقت الذي تتصاعد فيه شدة انتفاضة العراق ضد إيران وسلطات بغداد التابعة لإيران.

أما “إسرائيل” فقد استخدمت نغمة قاسية، في ردة فعلها على عملية “نبع السلام”، ووصفته “بالغزو التركي للمناطق الكردية في سورية”، وحذرت من خطر “التطهير الديموغرافي”، وأكدت أنها مستعدة لتقديم “المساعدات الإنسانية للشعب الكردي الشجاع”. وتُفسر ردة الفعل الإسرائيلية على العملية التركية بالأراضي السورية بأنها نتيجة للعلاقات غير المثالية بينهما منذ سنوات، حيث تتهم “إسرائيل” تركيا بدعم حركة حماس، على الرغم من أن المسافة التي تفصل بين العملية وحدود الكيان الصهيوني 800 كم، وبالتالي لا تشكل تهديدًا جديًا “لإسرائيل”. ولكن الخشية الإسرائيلية تتلخص بسؤال: “هل ستتخلى عنا الولايات المتحدة ذات يوم كما تخلت عن الأكراد؟”. وهل يمكن “لإسرائيل” أن تستمر في الثقة بالولايات المتحدة؟ كما كتب ديفيد هالبفينغر في نيويورك تايمز.

مستوى الدول الأوروبية القلقة من عودة إرهاب (داعش) :

أصدر الاتحاد الأوروبي بيانًا يدين “العمل الأحادي”، ويطالب “بإنهاء الأعمال العدائية”، وذكر مجلس الاتحاد الأوروبي أنه يعارض “أي محاولة للتغيير الديموغرافي” في المنطقة، مشيرًا إلى “تطهير عرقي” محتمل للأتراك يستهدف الأكراد السوريين، وقدم أعضاء الاتحاد الأوروبي كل من فرنسا وألمانيا وبلجيكا وبولندا، إضافة إلى بريطانيا، مشروعَ قرار لمجلس الأمن، وقد عارضته كل من الولايات المتحدة وروسيا، فلم يسفر عن أي شيء.

وقلق الاتحاد الأوروبي قائم على أمرين أساسيين وهما: أن الهجوم التركي قد يسبب المزيد من الهجرات وتدفق اللاجئين السوريين لأوروبا، وأن زعزعة استقرار شمال شرقي سورية قد تعيد إحياء (داعش) وتحرّر المعتقلين الدواعش من السجون الكردية. لكن الولايات المتحدة طمأنت الاتحاد الأوروبي بأن السجناء الدواعش تم نقلهم إلى سجون سرية، وأن محاولات الهروب التي تمت من مخيم عين عيسى قرب الرقة لم تكن ذات أهمية، بالرغم من تحرير الأكراد لسجناء (داعش) قبيل تحرير مدينة تل أبيض العربية على الحدود السورية، ومن تل السمن قرب الرقة، مع العلم أن معظمهم عائلات من النساء والأطفال. وحاول الاتحاد الأوروبي إقناع المجتمع الدولي بمخاوف مقنعة. أما فرنسا فلديها استثمارات شركة (لافارج) شرق الفرات، فحاولت بقوة الوقوف ضد العملية. لكنها أعلنت سحب تلك المؤسسة، وتحاول فرنسا عبر العراق عدم تقديم جهادييها الفرنسيين للجهاز القمعي لنظام الأسد، من خلال محادثات وزير الخارجية الفرنسي إيفل لودريان في بغداد، لحل تلك المعضلة، وضرورة محاكمتهم في بغداد وتأمين نقلهم.

مستوى دول الخليج العربي التي تخشى ما يترتب على العملية من عواقب علاقات القوة في دول المنطقة:

دانت دول الخليج العربي، باستثناء قطر، العملية العسكرية التركية، والمعروف أن قطر حليفة تركيا بعدما فُرض الحصار عليها من قبل السعودية والإمارات والبحرين، ودعمت تركيا قطر بإنشاء قاعدة عسكرية تركية في أراضيها، واعتبرت قطر، ومعها ثلاث دول عربية بالجامعة العربية، أن التدخل التركي في الأراضي السورية مشروع.

وقد دانت كل من مصر والسعودية والإمارات بشدة التدخل التركي، بسبب العداء القائم من تلك الدول تجاه تركيا، فالسعودية بسبب قضية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018، والإمارات بسبب أجندتها في ليبيا وعدائها لقطر، ومصر بسبب وقوف تركيا منذ ست سنوات إلى جانب الرئيس المصري الراحل محمد مرسي، ورفضها للانقلاب في مصر عام 2013. ولكن بعد إعلان وقف إطلاق النار تحفظت تلك الدول، ولم يخرج أي بيان مرحب أو معارض.

أما النظام السوري فتحدث عن “انتهاك واضح” للقانون الدولي. ويحاول النظام السيطرة على منبج وعين العرب والرقة ودير الزور، وريف الحسكة، بالاتفاق مع حلفائه الأكراد، وقد نشر بالفعل قواته بمحيط تلك المناطق، ووصل إلى تل تمر بالحسكة وقرب الطبقة بالرقة. وقد تحدثت لوفيغارو الفرنسية عن عودة “بشار إلى كردستان السورية”، أما لوموند الفرنسية فتحدثت عن عودة نظام دمشق القمعي إلى شمال شرقي سورية، ولكنها أضافت أن النظام لا يملك القدرة على إعادة سيطرته على تلك المناطق بين عشية وضحاها، وأنه قد يحافظ على شكل من أشكال الحكم الذاتي للأكراد، وسيلتقي معهم في قمع العرب بتلك المناطق.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق