يوسف الحاج، من مدينة حلب الشهباء، هو اسمي وهويتي، بين الثرثرة والفضفضة، أقصّ حكاية نجاحي بعد انكسار، وأروي قصة فراق يدي اليمنى وقدمي اليمنى، بسبب قصف على مدينتي حلب، ولا ذنب لي أن أخسرهما سوى أني سوري، لتبدأ دورة الفراق معهم، وأبدأ بحب نفسي أكثر، بعد أن أصبح بوسعي أن أرى الدنيا بوضوح أكبر بفقدانهما، لقد رأيت الحياة ببصيرتي لا ببصري.
حين بدأت الثورة السورية السلمية، كنتُ في مقتبل العمر، كان عمري آنذاك 15 عامًا، بين الطفولة والمراهقة خرجت في تظاهرات سلمية، أطالب بحرية وكرامة خُلقتا معي، لكن براءتي سبقت نضجي بعد حين، فرحلت إلى تركيا مع أهلي عام 2013، وعشت هناك حتى عام 2016، فقد كان عليّ أن أهجر سورية لألقاها من جديد، وعدت ببداية جديدة إلى حلب محملًا بالعزيمة قبل الشوق، عام 2016.
كان الحصار يحتجز جمال حلب وحضارتها، عدت ليكتب لي القدر أن أشارك في معركة فك الحصار عن الأحياء الشرقية لحلب في ذلك العام، ونادى منادٍ للمشاركة بمعركة في الراموسة، لأخرج وأصدقائي في مؤازرة في 22 آب/ أغسطس عام 2016، فكانت المعركة كزوبعة نارية، وسقط صاروخ فراغي علينا أنا ورفاقي الثمانية، فقُتل أربعة منهم، وأصيب الآخرون، وعمّ الصمت المكان، ليفترسنا أنين المستقبل الغامض في ليل أصمّ.
فجأة، في تلك اللحظة شاهدت أطرافي تتبعثر، وبصوت لا يعرف طريقًا صرخت (يا الله)، فكانت تلك اللحظة وكأنها لحظة عدم وعي طفل لحظة ولادته، لقد رحلت يدي اليمنى وقدمي اليمنى، وتركتا جسدي النحيل وحيدًا، بعد أن ضيعتا طريق العودة إليه، لقد فقدت كل شيء في ثوان.
بقيتُ في المشفى للعلاج مدة شهرين تقريبًا، وكان أهلي حينذاك في تركيا، وزاد الألم بسبب الوحدة، حاولت بعد مدة أن أخوض تجارب وحدي، أن أمشي على ساق واحدة، وكأني أمشي على حقل من الصبار، وأن أسحب نفسي عن الكرسي المتحرك لأقضي حاجتي، أن أمسك الأشياء بتلك اليد المتبقية، محاولًا متابعة حياتي في مطبات الحياة اليومية، وكان التحدي يواجهني كل يوم والصعوبات تصرخ في وجهي أكثر، لكن لا مفرّ.
بعد شهرين، حملت حقيبة خيبة آمالي ورحلت إلى إدلب، في منتصف كانون الأول/ ديسمبر، ومن ثم انتقلت إلى تركيا لتركيب طرف صناعي بدل قدمي اليسرى، وكان جسدي يتلاشى بين غربة الجسد الجديد، وأنياب الدنيا القاسية التي لا ترحم.
وصلت إلى تركيا، وركبت طرفًا صناعيًا (هيدروليك) مكان ساقي التي رحلت، وبالرغم من ذلك ضاع حلمي في أن أكون لاعب كرة قدم ذات يوم، فكنت أخفي وجهي خلف يد واحدة حتى لا يرى أحد أبخرة نيراني الدفينة، المبعثرة بين حنجرتي وشحمة أذني، واستسلمتُ للواقع لأهرب إلى النوم في النهار والسهر في الليل، مدة عام كامل، وكأني في رحلة براري لا محطات فيها ولا طموح، لم يرافقني فيها إلا جدار يشبهني في كل شيء.
ذات يوم، قررت أن أغيّر مسيرة حياتي، كنت بحاجة إلى أن أجد طريقة لأعمل وأجد مبلغًا يعيلني، فصفعت الباب في وجه عنكبوت الشؤم التي رافقتني والتهمت روحي قبل جسدي، وقررت أن أصفّق بيد واحدة، سأصفق نعم سأصفق، ولكن كيف لشاب عشريني أن يصفّق بيد واحدة، ربما يعتبرني الجميع مجنونًا، لكني وجدت طاولة وطرقت عليها بأصابع يدي اليسرى، وبدا لي أني قد أوصل فكرتي بالتصفيق على طريقتي، المهم أن أوصل فكرتي.
بدأت الانخراط في المجتمع، بحثت عن أعمال تطوعية في منتدى مشاركة في فريق العمل المدني مع ذوي الاحتياجات الخاصة، الذي يعمل على التوعية، ألصقت جرحي بجروحهم، وبدأت أغني بإيقاع يشبهني بشكلي الجديد، والتقطت أصابعي الخمسة المتبقية في يدي اليسرى نسيم الأمل، وتأججت بالقوة.
فتحت لي رحلتي مع البتر مجالًا لم يكن بحسباني، لا سيّما أني لا أملك شهادات حتى شهادة المرحلة الإعدادية، لأتعرف من خلال عملي التطوعي إلى مُخرج أفلام، علمت منه بتوفر دورة تدريبية حول صناعة الأفلام القصيرة، شاركت فيها لمدة ثلاثة أيام، وبعدها كانت مسابقة لصناعة الأفلام القصيرة، فشاركت بفيلم يحكي عن واقع الاندماج بين السوريين والأتراك، من خلال آلة العود التي توصل ثقافة الشعبين لكلا الطرفين، وأطلقت على الفيلم اسم (وتر)، لأحوز المرتبة الثانية، وأشم رائحة الزعتر البري المدموج بالنجاح، وأعلم أني إنسان قادر على أن أنجز وأنجح وأصل إلى مبتغاي، إذا ما صممت.
بعدها جاءتني فرصة لأكون ضيفًا في برنامج إذاعي في إذاعة (روزنا)، تحدثت فيه عن ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يعانون ما أعاني، عبرت خلال اللقاء عن صلابتنا رغم وحدتنا، وعن قوتنا رغم وجعنا، وطالبت بتغير نظرة المجتمع السلبية إلى هذه الفئة من الناس الذين زادت أعدادهم في هذه الحرب الطاحنة، وأوصلت رسالتي ورسالة كلّ من هم مثلي، بمطالبتي أن يكون لنا فرص عمل في كافة المنظمات والمؤسسات، فنحن بحاجة إلى عمل وإلى اندماج وانخراط في المجتمع، فالإعاقة إعاقة الفكر لا إعاقة الجسد، وكانت جملتي الأهم (أنا إنسان من حقي أن أعمل، ومن حقي أن أشارك بما يفيد المجتمع).
هذه الكلمات البسيطة التي خرجت من صميم القلب، كانت سبيلًا لتفتح لي مجالًا في العمل الإعلامي، تلك الفرصة التي لم أحلم بها قط، فنحن -ذوي الاحتياجات الخاصة- لسنا متسوّلين للمشاعر، نحن من صلب هذا المجتمع وفي لبّه ومن أساسياته، عرض عليّ أن أتدرب على تقديم برامج إذاعية، ليكون لي في المستقبل عمل إعلامي، وها أنا أتدرب في الإذاعة للشهر السابع، وأرقب تطوري، وأتأمل نجاحي بين ضوء الشمس والنظر إلى القمم.
لم يتوقف طموحي عند هذا الحد، ولأني أريد الوصول إلى تلك القمة لن أقبل أن تتصدع إنجازاتي، فشاركت بندوة حوارية بعنوان (نحن قدها)، في الذكرى الثالثة لبتر أطرافي، دعيت إليها عددًا من ذوي الاحتياجات الخاصة، إضافة إلى عدد من المثقفين، لأحكي عن تجربتي مع الألم والنجاح، شجّعت كل من فقد الأمل في الحياة على التطور، فالنجاح قد يوصل أيًّا منا إلى ذروة السعادة ولو كانت أطرافه ناقصة.
من الإعلام والندوات، انتقلت لأخوض تجربة في المسرح، لأجعل رائحة البنفسج تفوح من مسام نجاحي، كتبت نصًا لمسرحية (مونودراما) كوميدية، نقلت فيها صورة معاناتي بطريقة تهكمية ساخرة، وقدمتها في مؤتمر وطن السابع، أخبرت الحضور كيف سقطت وفقدت أطرافي، ولكن بالرغم من كل ذلك هناك شروق في كل لحظة في مكان ما في هذا العالم، أبلغتهم أن ساقًا من حديد أقوى من ساقي الحقيقية، لذا لن أسقط.
لم تمنعني إعاقتي من الزواج، تزوجت بعد إصابتي بعام تقريبًا، لم يستمر نجاح الزواج طويلًا، لكنه أثمر عن أجمل ما في حياتي، فكانت ابنتي (مال الشام) التي تبلغ من العمر عامًا واحدًا، فكلما شعرت أن التململ حاول أن يسرقني، رسمتُ وجه ابنتي أمام عيني لأنتصب وأقف من جديد، لن أستسلم لأجلها أولًا، ولأجل الثورة التي خرجت من أجلها ثانيًا، فالعمر ليس غلطة مطبعية، إنه قدر مرسوم لننجح لا لنستسلم عند أول وعكة، وصدقوني لن يسكت صهيل الوديان، ما دامت هناك رغبة في الحياة.